لم لا يثق العرب بالأميركيين؟

لم لا يثق العرب بالأميركيين؟

العرب لا يكرهون حريتنا إنما يكرهون خيانتنا لمبادئنا عند التعامل مع قضاياهم نتيجة لطمعنا في نفطهم

مقدمة من المعرب وليد إبراهيم حسين

هذه المقالة لروبرت كينيدي (الأبن) إبن شقيق الرئيس الراحل جون كينيدي نشرتها مجلة پوليتيكو الإلكترونية بتاريخ ٢٢ شباط ٢٠١٦. خلال الثلاث سنوات التي مرت على كتابة هذا المقال فقد تغيرت موازين الصراع وتفرق المتآمرون أيما تفرق حيث حوصرت قطر من قبل حلفائها الذين دخلوا معها الحرب من أجل مد خط إنبوب الغاز عبر سوريا وهزمت داعش في العراق نتيجة لحرب شعبية كلفت الكثير من الأرواح والمعاناة والمال وتركت مدناً مدمرة وملايين المشردين وكذلك بقي النظام السوري صامداً نتيجة لوقوف روسيا وإيران وعدد من التنظيمات العربية المسلحة معه نتيجة للصراع الطائفي الذي عمقه الأميركان في المنطقة تغليفاً لمشاريعهم.

المقالة تسلط الضوء على أمرين مهمين ألا وهما تاريخ الصراع وتاريخ التدخل الأميركي بالتحديد في منطقة الشرق الأوسط في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وطرد المستعمرين القدامى وإرتباط هذا التدخل عضوياً بالسيطرة على الثروات الهائلة التي تحتويها المنطقة. الجدير ذكره هنا هو أن مناطقاً أخرى في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية وأميركا الوسطى قد شهدت في نفس الفترة تدخلات مشابهة وأُشعلت فيها حروب مدمرة وتم تدبير إنقلابات عسكرية على مدى عقود والتي راح ضحيتها الملايين من الأبرياء. الذي يهمنا في هذه المقالة هي النتيجة الحاسمة التي توصل إليها الكاتب وهي أن كل الذي جرى ويجري إلى اليوم هو من صنع دوائر الحكم اليمينية في الولايات المتحدة ودوائر مخابراتها المتعطشة للسيطرة على مقدرات العالم وشعوبه. ربط الحاضر بالماضي ربما يعيننا على فهم الحاضر بصورة أعمق وخاصة معلومات التاريخ المعاصر عن الحرب الدائرة اليوم في بلدان عربية عديدة وبالتحديد في سوريا والعراق وليبيا واليمن.

المقالة تعبر عن وجهة نظر الكاتب وقد حاولت جهد الإمكان أن يكون تعريب بعض الإصطلاحات والتعابير كما وردت وقد يجد القارئ الكريم في المقالة بعض المعلومات الغير الدقيقة وربما الناقصة عن الفترة التاريخية موضع البحث.  يسلط الكاتب كذلك الضوء على نشوء الحركات الإرهابية التي تتخذ من الدين غطاءاً لها والتي يسميها بالحركات “الجهادية” كأداة لإشعال الحرائق وبث الفرقة وأن هذه الحركات قد مولت من قبل دول بعينها لأغراض إقتصادية وجيوسياسية بأدوات إستخدمها الأمريكيون وحلفاؤهم وما زالوا. من الضروري أيضاً ذكر أن بعض الحركات القومية قد ساعدت في تدخل الأمريكيين في المنطقة ونذكر منها الحركة البعثية في سوريا نفسها وتبعها العراق والتي إعترف فيها البعثيون على لسان منظريهم بعد ذلك أيام السبعينات بأن الهدف الرئيس لتأسيس حزبهم كان الوقوف بوجه موجة إجتياح الأفكار الماركسية للمنطقة بعد الحرب العالمية الثانية وخروج الإتحاد السوڤييتي منتصراً فيها مقابل الأفكار القومية (مجلة آفاق عربية نيسان ١٩٧٥). من الواضح أن هدف كهذا كان يصب في مصلحة الأمريكيين كما أنه من الثابت تاريخياً وكما ذكر الأستاذ حنا بطاطو في كتابه (ثلاثة أجزاء) عن تاريخ الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق (١٩٧٨) بأن ميشيل عفلق زعيم البعث في الأربعينيات وأثناء الفترة المبكرة لتدخل السي آي أيه في سوريا قد أيد إنقلاب حسني الزعيم الأميركي وكتب رسالة للزعيم بعد إعتقاله لفترة قصيرة يعبر فيها عن ندمه ومتخلياً فيها عن مبادئه الثورية كي يطلق سراحه وهو الذي لم يتعرض لأي أذى من قبل معتقليه وهذا مافعله أحمد حسن البكر بعد إنقلاب عارف على البعث عام ١٩٦٣ ومشاركته عارف في الإنقلاب على حزبه وتركه الحزب بعد ذلك.

لقد عزا الكاتب أسباب الحرب الدائرة الآن في سوريا إلى موضوع عدم سماح السلطات السورية ومنذ الأربعينيات لمرور خطوط نقل النفط والغاز الخليجي عبر أراضيها وأن كل المحاولات لقلب أنظمة الحكم السورية منذ العام ١٩٤٩ وليومنا هذا قد إرتبطت بهذا الموضوع. لربما من المفيد أن ننوه هنا بأن مرور هذه الخطوط عبر سوريا هو موضوع جيوسياسي كان العراق طرفاً فيه. ففي سبعينات القرن الماضي غيّر العراق إتجاه نقل نفطه من سوريا ولبنان إلى تركيا عبر منظومة خطين عملاقين هما الخط الإستراتيجي والخط العراقي-التركي والخط الأخير والذي يصب في ميناء جيهان مازال يعمل لليوم. كان ذلك القرار قراراً سياسياً بحتاً إرتبط بصعود نجم صدام حسين والعداء السافر بين جناحي البعث في سوريا والعراق وإصرار سوريا على ملأ سد الطبقة على نهر الفرات وما لحق ذلك من جفاف جنوب وادي الفرات وقتل الحياة على ضفتيه ولكن ذلك التغيير كان دائماً ما يصب في مصلحة القوى الإمپريالية التي تعادي البلدين ولتمنع إستفادة الشعوب العربية من ثرواتها رغم التشدق الفارغ من أي معنى بالوحدة العربية. في الحقيقة لا نملك معلومات عن سبب رفض سوريا عهدئذٍ لمرور خط التاپلاين السعودي عبر أراضيها وما تبع ذلك من تطورات وتداعيات علماً بأن الخط العراقي كان يمر عبر سوريا وهو مملوك لشركة النفط البريطانية. علماً بأن الجزء من الخط العراقي المار بسوريا قد تعرض للتدمير عام ١٩٥٦ أثناء العدوان الثلاثي على مصر وكان المسؤول عن ذلك العقيد عبد الحميد السراج.

ربما يؤاخذ على المقال إهماله لبعض العوامل الكبرى التي أثرت في الأحداث حيث لم يتناول الكاتب أحداث حلب وحماه عام ١٩٨٠-١٩٨٢ وإستخدام تنظيمات الإخوان المسلمين في محاربة النظام والتي أتهم فيها وبتمويلها نظام البعث العراقي وربما كان هناك دور للمخابرات الغربية أثناء الحرب الباردة خاصة في ظل تواجد سوڤيتي مهم في سوريا. كذلك لم يغطي الكاتب دور إسرائيل وتآمرها وإلتقاء مصالحها مع الأنظمة الإستبدادية في المنطقة ودورها في زعزعة أمن بلدان المنطقة من أجل إبعاد الخطر عنها، إنما إعتبر الكاتب حماية حدود إسرائيل أمر مفروغ منه بالنسبة للولايات المتحدة ويعتبره المبرر الوحيد لتواجدها في المنطقة! ناسياً أن نصف معضلات المنطقة تأتت من وجود إسرائيل وحروبها وإسباغ الشرعية على أنظمة الطغيان وبصراعهم الكاذب معها.

رغم أن الكاتب يصل إلى نتيجة حاسمة بخصوص خلق الولايات المتحدة للتنظيمات الإرهابية من أجل تحقيق أهدافها والسيطرة على الثروات إلا أنه لم يذكر إتهامات حلفائها وخاصة الخليجيين منهم لإيهام شعوب المنطقة ولتمرير المخطط الأمريكي الطائفي وذلك بإتهام إيران والنظام السوري وحزب الله بأنهم هم من خلق داعش وأنهم متحالفون معها وهم من يزودها بالسلاح.

كما أن الكاتب لم يتناول تشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش وما يكتنف هذا التحالف من غموض وربما الفوضى والذي يضم بين صفوفه من هم يدعمون داعش في السر والعلن تحت تبريرات شتى هذا غير قصف القوات العراقية والسورية مرات عديدة من قبل طائرات الحلفاء والتحجج بأنها أخطاء غير مقصودة. كذلك فبعض أعضاء هذا التحالف يتهمون النظامين العراقي والسوري بأنهما نظامان طائفيان يستهدفان أهل السنة خالطين الأوراق في تحديد من هو الإرهابي. كما أن الأمريكيين والبريطانيين إندفعوا في مساعدة ما يسمى بالتحالف العربي لقتل الأبرياء في اليمن دون رحمة ولا وازع من ضمير تحت تبرير الوقوف بوجه التمدد الإيراني. لم يتناول الكاتب كذلك مصانع تفقيس الإرهابيين في أورپا وغض النظر عنها من قبل السلطات الأورپية دون إستثناء وكيف إنتقل خريجو المدارس الوهابية إلى القتال في العراق وسوريا وبالآلاف ومرورهم السهل عبر بوابة تركيا وكذلك تصديرهم للنفط بكل حرية من حقول النفط السورية والعراقية هذا عدا طبعاً عن مرور آلاف سيارات التويوتا الياپانية ذات الدفع الرباعي والأسلحة التي ركبت عليها.

المحصلة النهائية صراع على ثروات الشرق الأوسط وموت الملايين من أجل أن يتنعم حفنة من الدمى والشواذ بالمال وإستحواذ الشركات الإحتكارية الكبرى على الحصة الأكبر من تلك الثروات بصورة مباشرة من خلال الشراكة المباشرة وغير مباشرة من خلال بيعهم السلاح وما يحتاجونه لرفاهيتهم التي فاقت حدود المعقول.

المقالـــة

يعود سبب كتابة هذه السطور، إلى حد ما، إلى أن من قتل والدي روبرت كينيدي كان عربيا. ً[1]

لقد بذلت جهوداً كبيرة كي أفهم تركة سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وبالذات العوامل التي تؤدي بدورها أحيانا إلى ردود أفعال عنيفة من قبل العالم الإسلامي تُجاه بلدنا. وبينما نحن نركز هذه الأيام على بروز الدولة الإسلامية والبحث عن جذور توحش سلوكها والذي أدى إلى إزهاق أرواح بريئة في پاريس وبرناردينو. لذا يجب علينا أن نمعن النظر إلى ما هو أبعد من التفسيرات السطحية المبسطة لعاملي الدين والعقيدة بل يجب علينا العمل على سبر أغوار الأسباب الأكثر تعقيداً التي تخص التاريخ وثروة النفط. عند البحث في أسباب تصاعد هذا العنف سنجد أن أصابع الإتهام تشير دائماً إلى شواطئنا.

يبين السجل المنحط للولايات المتحدة نتيجة لتدخلاتها العنيفة في سوريا، والذي يجهل الأمريكيون الكثير عنه على عكس السوريين، كيف أن أميركا هي التي بذرت العنف الجهادي الإسلامي في أرض خصبة منذ زمن ليس بالقصير وكيف أن الجهاد الإسلامي في سوريا هو الذي يعقد الآن أي إستجابة فعالة لما تقوم بها حكومتنا لمواجهة التحدي الذي تمثله الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش[2])، فلطالما أن الجمهور وصناع القرار الأمريكي غير مدركين لهذا الماضي، فأن مزيداً من هذه التدخلات الأميركية ستفاقم الأزمة وحسب. لقد أعلن وزير الخارجية جون كيري هذا الاسبوع وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار في سوريا ولكن بما أن نفوذ الولايات المتحدة وهيبتها داخل سوريا هما في الحضيض وبما أن وقف إطلاق النار المؤقت المقترح لا يشمل المقاتلين الرئيسيين وهما الدولة الإسلامية وجبهة النصرة فأن أية هدنة ستكون هشة وعرضة للخرق في أحسن الأحوال. والشيء بالشيء يذكر فأن التصعيد العسكري الذي بدأه الرئيس أوباما في ليبيا فأن الغارات الجوية والتي استهدفت معسكر تدريب للدولة الإسلامية في الأسبوع الماضي فأن من نتائجه أنه سيعزز مركز المتطرفين بدلا من إضعافه. لقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز في 8 ديسمبر 2015 وعلى صفحتها الاولى بأن القادة السياسيين للدولة الإسلامية ومخططوها الاستراتيجيون يعملون على إستفزاز الأمريكيين كي يتدخلون عسكريا. إن هؤلاء يدركون ومن خلال خبرتهم وتجاربهم بأن فعلا من هذا القبيل سوف يزيد من تدفق المقاتلين المتطوعين عليهم، فعلٌ من هذا القبيل سوف يُسكت أصوات الاعتدال وسيوحد العالم الإسلامي ضد الولايات المتحدة.

من أجل فهم حركية هذا الصراع فأن علينا أن نعود بادئ ذي بدء إلى التاريخ من وجهة نظر السوريين وخاصة النظر إلى بذور الصراع الحالي، فمنذ زمن بعيد يمتد إلى ما قبل احتلالنا للعراق عام ٢٠٠٣ فقد رعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية(السي آي أيه) الحركات الإسلامية الجهادية في سوريا وهي الحركات التي تتخذ العنف سبيلاً لها وكانت تلك الرعاية هي إحدى أسلحة الحرب الباردة في الماضي وهي التي سممت العلاقات الأميركية السورية مادامت تفعل فعلها وهي كذلك التي أطلقت شرارة الإنتفاضة السُنية والتي تحولت فيما بعد إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

،لم تمر تلك الأحداث الماضية دون خلاف، كان ساخناً داخل البيت الأمريكي نفسه ففي يوليو من عام ١٩٥٧ وفي أعقاب إنقلاب فاشل قامت به السي آي أيه في سوريا، أثار (عمي) السناتور آنئذٍ جون كينيدي[3] غضب بيت أيزنهاور الأبيض وكل زعماء الأحزاب السياسية وكذلك حلفاءنا الأوروبيين بخطاب له يعتبر علامة فاصلة ومميزة في موضوع تأييد حق تقرير مصير شعوب العالم العربي وحقها في حكم نفسها بنفسها وكذلك وضع حد للتدخل الأميركي الإمپريالي في المنطقة. أثناء سِنيْ حياتي وخاصة خلال زياراتي المتكررة إلى الشرق الأوسط أستمع إلى الكثيرين من العرب وهم يسترجعون لي وبإعتزاز ذلك الخطاب كأوضح تصريح عن المثالية التي يتوقعونها من الولايات المتحدة والذي كان بحق ذلك الخطاب نداءً لأجل إحياء إلتزام أميركا للقيم العليا التي تؤمن بها والتي كان لبلدنا في نشرها دور الريادة في العالم وبالذات من خلال إعلان ميثاق الأطلسي[4]؛ حيث أن ذلك الميثاق كان إلتزاماً من قبل الأورپيين جميعاً بأن عليهم أن يغادروا مستعمراتهم وأن يتركوا شعوبها تقرر مصيرها بنفسها بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية[5]. لقد قام فرانكلين روزڤلت من خلال ذلك الإعلان بلي ذراع ونستون تشرشل وبقية قادة الحلفاء الأورپيين لأجل التوقيع على ميثاق الأطلسي عام ١٩٤١ كشرط مسبق للحصول على دعم الولايات المتحدة في الحرب الأوروپية ضد الفاشية.

 يعود الفضل الأكبر في إفراغ ميثاق الأطلسي من محتواه والعمل بالضد من السياسة المعلنة لشعبنا إلى شخص ألن دالاس وجهازه (السي آي أيه) والذي كانت سياسته الخارجية تقوم على التآمر على الشعوب في المقام الأول. في العام ١٩٥٧ كان جَدي السفير جوزيف كينيدي عضواً في لجنة سرية أُنتدبت للتحقيق في إساءة العمل السري الذي تقوم به السي آي أيه في الشرق الأوسط. نشرت اللجنة تقريرا إشتهر بتقرير بروس لوڤيت (Bruce Lovett) وقد حمل توقيعه. وصف التقرير المذكور المؤامرات الإنقلابية في الأردن وسوريا وإيران والعراق ومصر بأنها معروفة للشارع العربي ولكنها في الحقيقة مجهولة بالنسبة للمواطنين الأمريكيين والمواطنون الأميركيون بدورهم يصدقون إنكار حكومتهم لتلك التدخلات. يضع التقرير المذكور اللوم على السي آي أيه لتسببها في صعود موجة مضادة ومعادية للأمريكان في الشرق الأوسط والتي مازالت جذورها الخفية ممتدة ليومنا هذا في العديد من بلدان العالم. أشار التقرير بأن هذه التدخلات كانت غير أخلاقية ولا تتفق مع القيم الأميركية وهي بدورها قد حطت من موقع قيادة أمريكا للعالم الحر بالإضافة الى هبوط قيمتها الأدبية. أضاف التقرير بأن كل ذلك كان يتم دون معرفة الشعب الأمريكي بما يدور خارج أرضه. كما ذكر التقرير بأن الوكالة لم تفكر أبداً كيف أننا سنعالج هكذا تدخلات فيما لو قامت دولة أجنبية ما بتدبيرها داخل بلدنا؟

هذا هو التاريخ الدموي لبلدنا والذي يجهله أصحاب فكرة “التدخل” الجديدة أمثال جورج دبليو بوش وتيد كروز وماركو روبيو عندما يستعرضون نرجسيتهم مجازاً بالقول بأن وطنيي الشرق الأوسط “يكرهوننا بسبب حريتنا.” في الحقيقة فأن غالبية وطنيي الشرق الأوسط لا يكنون أيه كراهية لنا بقدر ما يكرهون خيانتنا للحريات، الحريات التي تمثل مثلنا العليا، في داخل حدود بلدانهم!

لأجل أن يفهم الأمريكيون ما الذي يجري فما عليهم سوى مراجعة بعض من تفاصيل هذا التاريخ القذر والذي نادراً ما يتم ذكره. في العام ١٩٥٠ رفض أيزنهاور والأخَوان دالاس – مدير المخابرات المركزية ألن دالاس ووزير الخارجية جون فوستر دالاس- مقترح معاهدة تقدم بها السوڤييت من أجل إبقاء منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن أجواء الحرب الباردة وكذلك ترك العرب ليحكموا بلدانهم بأنفسهم. في مقابل ذلك شن هؤلاء الثلاثة حرباً سرية ضد الوطنيين العرب إلى الحد الذي ساواهم ألن دالاس بالشيوعية وخاصة بعد أن هدد العرب الأحرار إمتيازات شركات النفط في المنطقة. لقد ضخ هؤلاء الثلاثة عدداً من العسكريين السريين الأميركيين لمساعدة الدمى من طغاة السعودية والأردن والعراق ولبنان بالإضافة إلى العمل على ضخ العقائد الجهادية المتزمتة حيث إعتبروا أن تلك العقائد الدينية حينها علاجاً ناجعاً وموثوقاً به لمواجهة مد الماركسية السوڤيتية. في اجتماع تم في البيت الأبيض في أيلول ١٩٥٧ بين مدير التخطيط في السي آي أيه فرانك وزنر ووزير الخارجية جون فوستر دالاس أشار آيزنهاور في ذلك الاجتماع على الوكالة بالحرف بأنه “يجب علينا فعل أي شيء ممكن من أجل توتير مظاهر الحرب المقدسة”. لقد جاءت هذه العبارة في مذكرة دونت من قبل سكرتير أركانه الجنرال أندرو گودپاستر.

بدأت وكالة المخابرات المركزية تدخلاً نشطاً في سوريا عام ١٩٤٩ بالكاد بعد عام واحد من تأسيسها. أثناء ذلك قام الوطنيون السوريون بإعلان الحرب على النازية وطرد ممثلي حكومة ڤيشي الفرنسية الإستعمارية العميلة للنازية وشكلوا بعد ذلك حكومة علمانية حسب النموذج الأمريكي لكنها كانت ضعيفة وفي آذار من ذلك العام تم إنتخاب شكري القوتلي بصورة ديمقراطية رئيسا لهاً. لقد تردد شكري القوتلي آنئذٍ في السماح لمرور خط نقل النفط العربي العابر- التاپلاين (Trans Arabian Pipeline) وهو مشروع أمريكي لنقل النفط من الحقول السعودية إلى موانئ لبنان مروراً بسوريا. يذكر مؤرخ السي آي أيه تيم واينر في كتابه “أرث الرماد “Legacy of Ashes” بأنه وإنتقاماً من عدم حماسة القوتلي بالسماح لخط النفط بالمرور عبر الأراضي السورية قامت السي آي أيه بتدبير إنقلاب عسكري لإستبدال القوتلي بدكتاتور منتقى، شخص محتال ومن أرباب السوابق إسمه “حسـني الزعيم”. لم يسعف الوقت حسني الزعيم كي يحل الپرلمان ويعطي موافقته على مد الخط حين أطاح به أبناء بلده بإنقلاب آخر بعد أربعة أشهر ونصف فقط من توليه السلطة.

بعد عدة إنقلابات متتابعة في بلد جديد غير مستقر حاول السوريون مرة أخرى إقامة دولة ديمقراطية وقاموا بإعادة إنتخاب شكري القوتلي وحزبه الوطني لقيادة البلد ولغاية ذلك الوقت كان شكري القوتلي يقف على الحياد بين المعسكرين المتنافسين، الغربي والسوڤييتي أثناء الحرب الباردة، ولكن وبسبب الغدر الأمريكي وإبعاده عن مركزه بإنقلاب دبرته السي آي أيه بدأ القوتلي بالميل أكثر فأكثر إلى معسكر السوڤييت. كان موقف القوتلي هذا مدعاة لإعلان دالاس بأن “سوريا قد أصبحت ناضجة لإنقلاب عسكري” حينها أرسل أثنين من متمرسي وخبراء الإنقلابات إلى دمشق وهما كيم روزڤلت وروكي ستون.

قبل عامين من إرسالهما إلى دمشق، كان روزڤلت وستون قد قاما بتدبير وتنسيق إنقلاب في إيران ضد الرئيس الإيراني المنتخب ديمقرطياً محمد مصدق، كان ذلك بعد أن حاول مصدق أن يعيد التفاوض حول شروط عقود الإمتياز المجحفة لبلده مع عملاق صناعة النفط البريطانية شركة النفط الأنجلو-إيرانية والمعروفة الآن بشركة برتيش پتروليوم BP. ويشتهر مصدق بأنه أول رئيس منتخب في إيران على مدى تاريخ يمتد لـ (٤.٠٠٠) عام وهو بذلك كان يمثل البطل الوطني الديمقراطي في العالم النامي. قام مصدق بإبعاد جميع الدبلوماسيين البريطانيين بعد إكتشاف مؤامرة إنقلاب من تدبير ضباط المخابرات البريطانية والذين يعملون بتعاون وثيق مع شركة النفط البريطانية ولكن مصدق قد أخطأ خطأً قاتلاً حين رفض إبعاد عملاء السي آي أيه والذين تأكد للإيرانيين بأنهم كانوا منغمسين بالتآمر مع البريطانيين. لقد ظن مصدق من أن الولايات المتحدة مثالاً يحتذى في الديمقراطية الوليدة في إيران ولكنه لم يكن كفؤاً على مواجهة ذلك الغدر. رغم لسعات دالاس المتواصلة إلا أن الرئيس ترومان قد منع مشاركة البريطانيين حماقاتهم للإطاحة بمصدق، لكن وبعد أن أصبح آيزنهاور رئيساً فقد أطلق العنان فوراً لدالاس كي ينفذ مخططاته التآمرية. بعد الإطاحة بمصدق بعملية أجاكس “Operation Ajax” تمت إعادة الشاه محمد رضا بهلوي إلى عرش الطاووس من قبل العميلين ستون وروزڤلت. محمد رضا بهلوي والذي كان يدعم شركات النفط الأميركية وعلى مدى عقدين من إحتضان السي آي أيه له ولحكمه الوحشي وقمع شعبه كانت النهاية هي إشتعال الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩! تلك الثورة التي شوشت سياستنا الخارجية على مدى ٣٥ عاماً.

وصل ستون إلى دمشق في نيسان ١٩٥٧ مندفعاً بنجاحه في عملية أجاكس في إيران. وصل ومعه ثلاثة ملايين دولار من أجل تسليح وإثارة المسلحين الإسلاميين وكذلك إرشاء الضباط العسكريين والسياسيين السوريين من أجل إسقاط نظام القوتلي العلماني المنتخب ديمقراطياً، هذا ما ورد في كتاب أمن للدمقراطية: الحرب السرية للسي آي أيه لجون پرادوس. بوجود ملايين الدولارات خطط روكي ستون سوية مع الإخوان المسلمين لإغتيال رئيس المخابرات السورية ورئيس الأركان ورئيس الحزب الشيوعي وكذلك هندسة إستفزازات في العراق ولبنان والأردن كي يقع اللوم بالتالي على البعثيين وذلك من خلال حبك لمؤامرات داخلية وبناء أذرع قوية مختلفة. لقد وصف تيم واينر في كتابه إرث الرماد كيف أن السي آي أيه قد خططت لزعزعة الحكومة السورية وتمهيد الأرضية لغزوها من قبل العراق والأردن، البلدان اللذان كانت حكومتهما تحت سيطرة السي آي أيه. لقد توقع كيم روزڤلت بأن الحكومة الدمية المنصبة من قبل السي آي أيه سوف “يمكنها إعتماد القمع والإستخدام العشوائي للقوة” هذا ما ورد في الوثائق المصنفة للسي آي أيه والتي نشرت في صحيفة الغارديان البريطانية.

لقد فشلت كل الرشى في إفساد الضباط السوريين حيث راح الجنود السوريون يحيطون قادتهم علماً بمحاولات السي آي أيه إستمالتهم ورشوتهم. كان رد السوريين على تلك المؤامرات هو مهاجمة السفارة الأميركية وأسر ستون وبعد تحقيق قاس معه إعترف ستون من على شاشة التلفزيون عن دوره في مؤامرة الإنقلاب ضد حكومة مصدق في إيران وعن محاولته الفاشلة في قلب نظام الحكومة الشرعية في سوريا. قامت بعدها الحكومة السورية بإبعاد ستون مع أميركيين إثنين من موظفي السفارة. لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إعتقال دبلوماسيين أميركيين في بلد عربي. لقد أنكر بيت آيزنهاور الأبيض حينها وبصخب إعترافات ستون معتبراً إياها مجرد تلفيقات وإفتراءات وتشهير وقد إبتلعت الصحافة الأميركية ذلك التكذيب بقيادة النيويورك تايمز وقد إنطلت هذه التبريرات على الشعب الأمريكي كذلك. بعد تلك المحاولة قامت سوريا بتطهير كل من يتعاطف مع الولايات المتحدة من سياسيين وأعدمت كل الضباط المتورطين في المحاولة الإنقلابية. وبدافع الإنتقام قامت الولايات المتحدة بتحريك الأسطول السادس إلى البحر المتوسط مهددة بالحرب وحثت كذلك تركيا لغزو سوريا. بدورها قامت تركيا بحشد (٥٠) ألف جندي من قواتها على الحدود مع سوريا ولم تتراجع تلك التهديدات إلا بعد أن واجهت معارضة شديدة وموحدة من قبل الجماهير العربية من أقصى العالم العربي إلى أقصاه وغضب قادته بوجه هذا التدخل الأميركي السافر. غير أن السي آي أيه لم تتوقف عن محاولاتها السرية لإسقاط الحكومة البعثية المنتخبة ديمقراطياً. عملت السي آي أيه بالتعاون مع جهاز المخابرات البريطاني[6] على تأسيس ما يسمى بـ “لجنة سوريا الحرة” حينها فقد سلحت جماعة الإخوان المسلمين لأجل إغتيال ثلاثة من المسؤولين السوريين الذين ساعدوا على فضح المؤامرة الأميركية وكما يذكر ماثيو جونز في كتابه الخطة المفضلة: تقرير مجموعة العمل الإنجلو-أميركية حول العمل السري في سوريا ١٩٥٧ “كان من نتيجة سوء أفعال السي آي أيه في سوريا أن دفعتها بعيدا عن الولايات المتحدة وأدخلتها في تحالفات طويلة الأمد مع السوڤييت ومصر.”

بعد المحاولة الإنقلابية الثانية في سوريا عمت المظاهرات المعادية للأمريكيين كل منطقة الشرق الأوسط من لبنان وحتى الجزائر وكان من أصدائها ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ في العراق وكانت بقيادة موجة جديدة من ضباط الجيش المعادين للأميركيين وقد أطاحت الثورة بالحكم الملكي التابع للأمريكان وعلى رأسهم نوري السعيد. قام قادة الثورة بنشر وثائق حكومية سرية تفضح فيها نوري السعيد كأكبر دمية تابعة من الذين كانت تدفع لهم السي آي أيه أجوراً عن خدماته. ورداً منها على غدر الولايات المتحدة فقد إستدعت الحكومة العراقية الدبلوماسيين والخبراء الإقتصاديين السوفييت للعراق وأدارت ظهرها للغرب.

بسبب نفور العراق وسوريا من نشاط السي آي أيه، طار كيم روزڤلت إلى الشرق الأوسط ليتسلم وظيفة تنفيذية في صناعة النفط العراقية والذي كان قد عمل بها سابقاً أثناء عمله في السي آي أيه. حل كيم روزڤلت محل جيمس كرتچفيلد بعد فشل محاولة كرتچفيلد إغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم مستخدماً منديلاً مسموماً، حسب واينر (إرث الرماد). بعد أربعة أعوام[7] نجحت السي آي أيه أخيراً في الإطاحة بالزعيم العراقي وتنصيب حزب البعث في السلطة في العراق. كان من ضمن الفريق المميز للسي آي أيه من البعثيين شاب قاتل ذو شخصية كاريزمية إسمه صدام حسين. لقد صرح علي صالح السعدي لاحقاً والذي كان من ضمن فريق صدام حسين[8] بـ “أننا جئنا بقطار السي آي أيه” هذا حسب ما ذكره الصحافي والمؤلف سعيد أبو ريش في كتابه “صداقة قاسية: الغرب والنخبة العربية”. يروي أبو ريش بأن السي آي أيه قد زودت صدام والمقربين منه بقائمة بالأشخاص الذين يجب تصفيتهم فوراً من أجل ضمان نجاحه في السلطة[9]. كتب تيم واينر بأن كرتچفيلد قد إعترف لاحقاً بأن السي آي أيه هي من خلقت صدام فعلاً وأنه أثناء سنوات رئاسة ريغان قامت السي آي أيه بتزويد صدام بمليارات الدولارات دعماً له لحربه ضد إيران لتغطية تكاليف التدريب وإسناد القوات الخاصة والأسلحة وتزويده بالمعلومات في ساحة الحرب رغم معرفتها التامة بأن صدام كان يستخدم غاز الخردل السام وغاز الأعصاب والأسلحة العضوية (البيولوجية) في تلك الحرب. لقد إعتبر ريغان ومدير السي آي أيه بيل كيسي صداماً صديقاً محتملاً لصناعة النفط الأميركية بالإضافة إلى أنه يقف عائقاً ثابتاً ضد تمدد الثورة الإسلامية في إيران. في العام ١٩٨٣ قام مبعوث ريغان دونالد رامسفلد يرافقه بيل كيسي مدير السي آي أيه في رحلة إلى بغداد وقدم هدية لصدام عبارة عن مهماز ذهبي خاص برعاة البقر مع قائمة بأسلحة كيمياوية وبيولوجية وتقليدية. في نفس الوقت قامت السي آي أيه وبشكل غير قانوني بتزويد إيران، عدوة صدام، بآلاف الصواريخ المضادة للدروع والمضادة للطائرات. لقد أُفتضحت تلك الجريمة أثناء الكشف عن فضيحة صفقة إيران-كونترا. لقد إنتهت أسلحة السي آي أيه تلك بيد الجهاديين من كلا الطرفين وإستخدموها ضد الشعب الأمريكي.

على الرغم من أن الولايات المتحدة مازالت تفكر بتدخلات عنيفة أخرى في الشرق الأوسط لكن الشعب الأمريكي لا يعلم بأن الإنتكاسات السابقة كانت نتيجة لأخطاء السي آي أيه والتي ساعدت بدورها على خلق الأزمات الراهنة.

إن قيام الإيرانيين والدكتاتوريين السوريين، بضمنهم بشار الأسد وأبوه، بإستحضار تاريخ الإنقلابات الدموية للسي آي أيه ذريعة لإستبدادهم وقمعهم وكذلك لتبرير تحالفهم المتين مع الروس وقد باتت هذه القصص معروفة للشعبين الإيراني والسوري واللذان هما بطبيعة الحال يفسران الحديث عن التدخل الأمريكي ضمن سياق هذا التاريخ.

بينما الصحافة الأميركية المطيعة وهي تردد كالببغاء ما تقوله الحكومة الأميركية ترى بأن العون العسكري للمتمردين السوريين هدفه إنساني بحت لكن الكثير من العرب يرى أن الأزمة الراهنة هي مجرد حرب أخرى بالوكالة من أجل أهداف سياسية ومن أجل مد خطوط نقل النفط والغاز. قبل الغوص عميقاً في هذا الحريق فمن الحصافة أن نأخذ بعين الإعتبار الحقائق الهائلة التي تدعم هذا التصور.

من وجهة نظرهم فأن الحرب لم تبدأ عام (٢٠١١) أي عند بداية الإحتجاجات المدنية السلمية بل إبتدأت في عام (٢٠٠٠) عندما إقترحت قطر إنشاء خط إنبوب لنقل الغاز طوله ١.٥٠٠ كيلومتر بتكلفة (١٠) مليارات دولار عابراً أراضي السعودية ثم الأردن وسوريا وينتهي في تركيا. من المعلوم بأن قطر تتشارك مع إيران في أضخم مخزون للغاز في العالم يقع في حقل پارس الجنوبي والمسمى بحقل غاز قبة الشمال. لقد منع الحصار الإقتصادي الدولي لإيران من بيع غازها للخارج بينما غاز قطر يصل أسواق أورپا ولكن بعد أن يتم تسييله وشحنه بحراً وهذا الطريق يحد من الكميات المصدرة ويرفع من التكلفة بشكل كبير، أما الخط المقترح فهو من الممكن أن يربط قطر مباشرة بأسواق الطاقة الأوربية وذلك من خلال محطات توزيع يتم نصبها في تركيا والتي بدورها ستستحصل تركيا أموالاً كبيرة كرسوم عبور. الخط القطري التركي سيعطي الممالك السنية في الخليج الفارسي سطوة قرار على أسواق الغاز الطبيعي في العالم وستقوي كذلك قطر الحليف الأقرب لأمريكا في العالم العربي حيث أن قطر تستضيف قاعدتين أمريكيتين ضخمتين بالإضافة إلى القيادة العسكرية المركزية الأميركية في الشرق الأوسط.

الإتحاد الأوربي والذي يستورد (٣٠٪) من احتياجاته من الغاز من روسيا هو أيضاً بأمس الحاجة لخط الغاز المقترح والذي سيعطي أعضاءه طاقة رخيصة وسيحرره من تصاعد دور پوتن الخانق ونفوذه إقتصادياً وسياسياً. أما تركيا وهي المستورد رقم (٢) للغاز الروسي فهي متشوقة أيضاً لإنهاء إعتمادها على خصمها التاريخي وهي تقدم نفسها كمحطة نقل مجزية للوقود الآسيوي لأسواق أورپا. كذلك فأن خط الغاز هذا سيساعد السعودية، المملكة السنية المحافظة، على إعطائها موطئ قدم في سوريا والتي يسيطر عليها الشيعة. إن هدف السعودية الجيوسياسي هو إحتواء قوة منافستها الرئيسية إيران الحليف الأقرب لبشار الأسد حيث ترى السعودية كذلك بأن رعاية أمريكا لتسنم الشيعة للحكم في العراق وكذلك إنهاء الحصار التجاري على إيران قد حط من مركزها وقوتها الإقليمية وخاصة وأنها متورطة أصلاً في حرب بالوكالة ضد طهران في اليمن وكما يتبين ذلك واضحاً من الإبادة الجماعية للحوثيين المدعومين من إيران.

من الطبيعي فأن روسيا ترى، والتي تصدر (٧٠٪) من غازها إلى أورپا، بأن الخط القطري التركي يمثل تهديداً وجودياً لها، فمن وجهة نظر پوتن فأن هذا الخط هو مؤامرة من الناتو لتغيير الواقع الحالي ولحرمان روسيا من موطئ قدم وحيد لها في الشرق الأوسط ويخنق الإقتصاد الروسي وينهي رافعتها الاقتصادية في سوق الطاقة الأورپي. في عام ٢٠٠٩ أعلن الأسد بأنه سوف يرفض التوقيع على إي إتفاقية تسمح بمرور الخط عبر الأراضي السورية وذلك من أجل حماية مصالح الحليف الروسي.

لقد أغضب الأسد الممالك السنية في الخليج أكثر فأكثر حين أجاز عبور الخط الإسلامي، وبعد موافقة الروس عليه، والذي يمتد من الجزء الإيراني لحقل غاز پارس المذكور إلى سوريا لينتهي في موانئ لبنان. الخط الإسلامي هذا قد يجعل من إيران الشيعية وليس قطر السنية المجهز الرئيس للطاقة للأسواق الأوربية والذي بدوره سيزيد من نفوذ طهران بشكل كبير في الشرق الأوسط وإسرائيل بدورها فقد فهمت وحددت موقفها من عرقلة الخط الإسلامي لأنه سيجعل من إيران وسوريا دولتين غنيتين وكذلك على نحو محتمل سيستفيد حلفاؤهما حزب الله وحماس من ذلك.
لقد بينت البرقيات والتقارير السرية المتبادلة بين أجهزة المخابرات الأميركية والسعودية والإسرائيلية أنه في اللحظة التي رفض فيها الأسد الخط القطري فقد توصل المخططون العسكريون والمخابراتيون بسرعة إلى إجماع بإثارة إنتفاضة سُنية في سوريا للإطاحة ببشار الأسد، الغير متعاون، وإنتهوا إلى أن هذا هو السبيل الذي بالإمكان إنجاز الهدف المشترك لإكمال الخط القطري التركي. في عام ٢٠٠٩ وبحسب ويكي ليكس فأنه فور رفض الأسد مشروع الخط القطري بدأت السي آي أيه بتمويل جماعات المعارضة السورية. من المهم ذكره هنا أن كل هذا الذي حدث كان قبل بداية إنتفاضة الربيع العربي المتوالدة ضد الأسد.

ينحدر بشار الأسد من عائلة علوية ينظر إليها على أنها تميل إلى الجانب الشيعي وكما يذكر الصحافي سيمور هيرش في مقابلة بأن بشار لم يكن في الحسبان مطلقاً بأن يكون رئيساً لسوريا ولكن أباه قد أعاده من دراسته للطب في لندن بعد مقتل شقيقه باسل بحادث سيارة. قبل أن تبدأ الحرب، بحسب هيرش، كان بشار يتحرك من أجل إزالة القيود عن سوريا. “كان لديهم إنترنت وصحف وآلات سحب النقد الأوتوماتيكية، كذلك أراد الأسد أن يتحرك غرباً” حيث إن نظام الأسد هو نظام علماني متأني وسوريا هي دولة متنوعة إجتماعياً بصورة لافتة. يمثل السنة في الحكومة السورية بضمنهم العسكريون (٨٠٪) ولقد حافظ بشار على السِلم الاجتماعي ضمن هذا التنوع بواسطة جيش موال ومنضبط يدين بالولاء لعائلة الأسد وكذلك ولاء مؤتمن من قبل قوات خاصة مهابة رواتبها عالية بشكل إستثنائي. قبل الحرب كان هناك جهاز مخابرات كتوم يميل إلى القمع ولكنه يعتبر معتدلاً بالمقارنة بما موجود من أنظمة في الشرق الأوسط بضمنها حلفاءنا الحاليين. وكما أفاد هيرش “بالتأكيد فأن بشار لا يقوم بقطع الرؤوس كل يوم أربعاء كما يفعل السعوديون في مكة.”

يتفق الصحافي المتمرس بوب پيري مع هذا التقييم حين يذكر ” ليس هناك أحد في المنطقة من هو يده نظيفة بما يتصل بأعمال التعذيب والقتل الجماعي وقمع الحريات المدنية ودعم الإرهاب، الأسد كان أفضل بكثير من السعوديين، وليس هناك من كان يصدق بأن النظام كان هشاً وعرضة للفوضى التي ضربت دول كمصر وليبيا واليمن وتونس ففي ربيع ٢٠١١ كانت هناك تظاهرات سلمية صغيرة ضد قمع النظام في العاصمة دمشق. قامت تلك التظاهرات بصورة رئيسية نتيجة لهبوب رياح الربيع العربي والتي إنتشرت كالڤايروس على طول وعرض البلدان العربية في الصيف الذي سبق. على أي حال فأن السي آي أيه كانت متواجدة أصلاً على الأرض السورية كما بينت برقيات ويكي ليكس[10].

أرادت الممالك السنية وبفيض الپترودولار وهي الدول التي تعاني أصلاً من أخطار تحيط بها تورطاً أمريكياً أعمق في الأزمة السورية، ففي ٤ أيلول ٢٠١٣ أخبر وزير الخارجية جون كيري أثناء جلسة إستماع النواب في الكونغرس بأن الممالك السُنية قد عرضت دفع فاتورة تكاليف غزو أمريكي لسوريا للإطاحة ببشار الأسد. “في الحقيقة فأن البعض منهم من قال إذا كانت الولايات المتحدة جاهزة لإنجاز العمل كلية وبالشكل الذي فعلته في أماكن أخرى (العراق) فأنهم مستعدون لأن يتحملوا التكاليف.” لقد كرر كيري العرض على النائبة الجمهورية عن فلوريدا إليانا روس ليتنن “مع الإحترام للدول العربية التي قدمت العرض لتحمل تكاليف (غزو أمريكي) للإطاحة بالأسد فأن الجواب هو وبعمق: نعم لقد فعلوا وأن العرض مازال مطروحاً على الطاولة“.

لقد أحجم باراك أوباما أول الأمر عن إستخدام الشباب الأمريكي كمرتزق ليموت من أجل مجموعة خطوط أنابيب على الرغم من الضغط الذي مارسه الجمهوريون وبحكمة منه فقد أهمل أوباما اللغط الجمهوري من أجل وضع قوات على الأرض السورية أو تمويل “المتمردين المعتدلين”، مع ذلك ففي نهاية ٢٠١١ فأن ضغط الجمهوريين وحلفائنا السُـنة قد أقحم الحكومة الأميركية في النزاع.

إنضمت الولايات المتحدة في العام ٢٠١١ إلى كل من فرنسا وقطر والسعودية وتركيا لتشكيل “تحالف أصدقاء سوريا” والذي دعى رسمياً لإزاحة الأسد عن السلطة. قامت السي آي أيه بدورها بدفع مبلغ (٦) ملايين دولار لقناة بردى وهي قناة تلفزيونية بريطانية لإنتاج أعمال تتوسل إسقاط الأسد. تعرض وثائق المخابرات السعودية المنشورة على الويكي ليكس أنه في عام ٢٠١٢ قامت تركيا وقطر والسعودية بتسليح وتدريب وتمويل المقاتلين السنة الجهاديين المتطرفين من سوريا والعراق وبلدان أخرى لقلب نظام الأسد حليف الشيعة. أما قطر والتي لها الحصة الأكبر من الربح من كل ذلك فقد إستثمرت ثلاثة مليارات دولار في بناء التمرد وقد إستقدمت البنتاغون إلى قطر لغرض تدريب المتمردين داخل القواعد الأميركية على أراضيها فحسب مقالة نشرت في نيسان ٢٠١٤ لسيمور هيرش فأن وسائل التدريب على أسلحة السي آي أيه للمتمردين قد مولت من قبل تركيا والسعودية وقطر.

إن فكرة إثارة حرب أهلية بين السنة والشيعة لإضعاف النظامين السوري والإيراني بهدف إدامة السيطرة على مصادر البتروكيمياويات في المنطقة هي ليست مجرد قصة خيالية في قاموس البنتاغون حيث يقترح تقرير راند والممول من قبل البنتاغون نفسه لعام (٢٠٠٨) خططاً دقيقة لما سيحدث. يلاحظ تقرير راند بأن السيطرة على خزين نفط وغاز الخليج الفارسي ستستمر كأولوية إستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وستلتقي تلك الأولوية بقوة مع إدارة الحرب الطويلة. يوصي راند كذلك بإستخدام أساليب “العمل السري والأنشطة المعلوماتية والحروب التقليدية” وذلك بهدف فرض إستراتيجية “فرق تسد“. يوصي راند أيضاً أنه بإمكان الولايات المتحدة وحلفائها المحليين إستخدام الجهاديين لشن حرب بالوكالة ولدى قادة الولايات المتحدة كذلك خيار الإستثمار في إدامة الخلاف السني الشيعي كسبيل لهم وذلك بإتخاذ جانب الأنظمة السُنية المحافظة ضد الحركات الشيعية المتصاعدة في العالم الإسلامي…. يخلص التقرير إلى أنه بالإمكان دعم أنظمة الحكومات السنية الإستبدادية لمواجهة عداء إيران المتصاعد.

وكما كان متوقعاً فقد كان رد فعل الأسد عنيفاً على الأزمة المصنعة في الخارج فبدأ بإلقاء البراميل المتفجرة على المناطق التي يسيطر عليها المتمردون السُـنة وقتل المدنيين. لقد زاد هذا الفعل من الإستقطاب الشيعي السني وقد سمح ذلك لصناع السياسة في الولايات المتحدة بيع الشعب الأمريكي فكرة أن الكفاح من أجل خط الأنبوب كان حرباً ذات أهداف إنسانية! فحين بدأ الجنود السنة بالإنشقاق عن الجيش السوري في عام ٢٠١٣ قام التحالف الغربي بتسليح “الجيش السوري الحر” بهدف زيادة زعزعة سوريا. لقد كان تصوير الصحافة الغربية للجيش السوري الحر بأنه كتائب متماسكة من السوريين المعتدلين مجرد وهم. لقد إنفرط عقد الجيش السوري الحر وتمت إعادة تجميع فلوله المبعثرة إلى مئات من الميليشيات المستقلة وقد أصبح أكثرها بإمرة أو متحالف مع الميليشيات الجهادية وهي الميليشيات الأكثر إلتزاماً وفاعلية في القتال. بعد ذلك عبرت جيوش القاعدة في العراق الحدود إلى سوريا للإلتحام مع السرايا المنشقة عن الجيش السوري الحر علماً بأن قسماً من هذه السرايا قد دُرب وسُلح من قبل الولايات المتحدة. على الرغم من تصوير وسائل الإعلام الغربية بأن الإنتفاضة هي ضد الطاغية الأسد إلا أن مخططي السي آي أيه يعرفون منذ البداية بأن من يحارب بالنيابة عنهم هم الجهاديون المتطرفون والذين من الممكن بمرور الوقت أن يصنعوا لهم خليفة إسلامي جديد يخرج من المناطق السنية في العراق وسوريا. قبل سنتين فقط من قفز الدولة الإسلامية على مسرح الأحداث العالمي كانت هناك دراسة تتكون من سبع صفحات مؤرخة في ١٢ آب ٢٠١٢ أجريت من قبل وكالة إستخبارات الدفاع الأميركية وتم الحصول عليها من قبل مجموعة الجناح اليميني للرقابة القضائية. حذرت تلك الدراسة بأن الدعم المستمر من قبل الولايات المتحدة والتحالف السني للمجاهدين السنة وهم جماعات السلفيين والإخوان المسلمين والقاعدة في العراق (حاليا داعش) هي القوى الرئيسية التي تقود التمرد في سوريا وأن هذه الجماعات قد حولت الإحتجاجات السلمية ضد بشار الأسد إلى حرب أهلية طائفية مدعومة من قبل القوى الدينية والسياسية السنية. يرسم التقرير الصراع في سوريا كحرب عالمية من أجل السيطرة على موارد المنطقة وذكر التقرير بأن “الغرب ودول الخليج وتركيا كلها تدعم معارضة الأسد بينما روسيا والصين وإيران تقف معه”. يبدو أن واضعي التقرير قد وافقوا ضمناً على ظهور خليفة داعش المتوقع. ذكر التقرير “إذا لم يتكشف الوضع بشكل واضح فأنه من الممكن تأسيس إمارة سلفية في شرق سوريا في مدينتي الحسكة ودير الزور وهذا هو بالضبط ما تريده القوى الداعمة للمعارضة كي يتم عزل النظام السوري.” حذر تقرير البنتاغون هذا بأن هذه الإمارة الجديدة من الممكن أن تتحرك قاطعة الحدود العراقية إلى الموصل والرمادي وتعلن دولة إسلامية من خلال إتحادها مع المنظمات الإرهابية في العراق وسوريا.

من الطبيعي، وهذا هو الذي حدث بالضبط وليس صدفة فأن المنطقة المقترحة لمرور خط أنبوب الغاز القطري هي المنطقة التي أُحتلت من قبل داعش وقامت عليها الدولة الإسلامية.

إلا أنه في عام ٢٠١٤ قام محاربونا بالوكالة من السُـنيين بإرعاب الأمريكيين وذلك بقطع الرؤوس وطرد الملايين من اللاجئين نحو أورپا. “إن الإستراتيجية التي تقوم على فكرة أن عدو عدوي صديقي من الممكن أن تكون نوعاً من العمى” هذا ما قاله تيم كليمنت والذي رأس قوة عمل الإرهاب المشتركة في مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) من ٢٠٠٤ لغاية ٢٠٠٨ وعمل كذلك كضابط إرتباط في العراق بين الـ (أف بي آي) والشرطة العراقية والقوات الأمريكية. قال لي تيم أثناء مقابلتي له “لقد إقترفنا نفس الخطأ حينما دربنا المجاهدين في أفغانستان وفي اللحظة التي خرج فيها الروس بدأ أصدقاؤنا المفترضين بتدمير الآثار وإستعباد النساء وتقطيع أوصال الأفراد وكذلك بالرمي علينا”.. 

عندما بدأ “الجهادي جون” بقتل الأسرى من على شاشة التلفزيون فقد تمحور البيت الأبيض مقللاً الحديث عن إزاحة الأسد ومكثراً الحديث عن الاستقرار الإقليمي. بدأت إدارة أوباما بالكشف أكثر عن علاقتها بالتمرد الذي مولناه حيث بدأ البيت الأبيض بإتهام حلفائنا، ففي ٣ تشرين الأول ٢٠١٤ أخبر نائب الرئيس بايدن الطلبة في منتدى جون كينيدي الإبن في معهد السياسة بجامعة هارڤرد إلى أن “حلفاؤنا في المنطقة هم أكبر مشكلة في سوريا”. شرح بايدن بأن تركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة كانوا مصممين على إسقاط الأسد وهم الذين شنوا حرباً سُـنية شيعية بالوكالة منفقين ملايين الدولارات وعشرات الآلاف من الأطنان من الأسلحة وتقديمها لأي شخص يريد أن يحارب الأسد بضمن ذلك جبهة النصرة والقاعدة وهما المجموعتان اللتان إتحدتا لتكوين الدولة الإسلامية. لقد كان الغضب بادياً على بايدن حين صرح بأن “أصدقاءنا” الموثوقين لم يعودوا محل ثقة للعمل بموجب الأجندة الأمريكية.

عادة ما يتهم القادة العرب على طول الشرق الأوسط وعرضه الولايات المتحدة بأنها هي التي خلقت داعش إلا أن مثل هذا الإتهام بالنسبة للكثير من الأميركيين يعتبر ضرباً من الجنون. يعتقد العديد من العرب بأن قرائن تورط الولايات المتحدة في خلق داعش كثيرة ويستنتجون كذلك بأن دور الولايات المتحدة في دعم ورعاية داعش هو عمل مقصود.

حقيقة الأمر فأن العديد من مقاتلي داعش وقادتهم هم الورثة العقائديين والتنظيميين للجهاديين الذين رعتهم السي آي أيه على مدى (٣٠) عاماً من سوريا إلى مصر إلى أفغانستان إلى العراق. لم تكن هناك “قاعدة” في عراق صدام قبل الغزو الأمريكي. لقد حطم جورج دبليو بوش حكومة صدام العلمانية ومن ثم وبسوء إدارة منقطع النظير قام نائبه على العراق پول بريمر بخلق الجيش السني فعلياً وهو الجيش الذي يسمى الآن بالدولة الإسلامية. حين وضع بريمر الشيعة في السلطة[11] ومنع حزب بعث صدام وسرح حوالي ٧٠٠ ألف شخص من وظائفهم أغلبهم من السنة من أعضاء حزب البعث تتراوح وظائفهم من وزير إلى معلم مدرسة. قام بريمر بعد ذلك بحل الجيش والذي تتراوح أعداده بحدود ٣٨٠ ألفاً ويشكل فيه السنة نسبة ٨٠٪ منه[12]. لقد جرد بريمر حوالي مليون شخص من السنة من مناصبهم وممتلكاتهم وثرواتهم وقوتهم حيث تحولوا إلى مجموعة من الغاضبين اليائسين وهم المتعلمون والمدربون والمسلحون. لم يترك بريمر لهم شيئاً كي يخسروه.

في بداية عام ٢٠١١ قام حلفاؤنا بتمويل عملية غزو سوريا من قبل مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق وفي نيسان عام ٢٠١٣ أي بعد دخولهم سوريا غيروا تسميتهم إلى (داعش)، وحسب ديكستر فلكنز من النيويورك تايمز فأن داعش تدار من قبل جنرالات عراقيين العديد منهم من حزب بعث صدام العلماني والذين قد تحولوا إلى متطرفين إسلاميين أثناء وجودهم في السجون الأميركية وأن الـ ٥٠٠ مليون دولار، وهي المعونة الأميركية التي بعثها أوباما إلى سوريا، قد إنتهت في أيدي هؤلاء العسكريين الجهاديين.

أخبرني تيم كليمنت الرئيس السابق للفريق المشترك الخاص للأف بي آي بأن الذي يميز الصراع بين العراق وسوريا هو أن الملايين من الرجال السوريين والذين هم بسن الخدمة العسكرية يفرون من ساحة القتال إلى أورپا بدلاً من بقائهم ليقاتلوا من أجل مجتمعاتهم. إن التفسير الواضح لهذه الفعل هو أن المعتدلين من الشعب السوري يهربون من الحرب التي هي ليست حربهم فهم ببساطة يريدون الهرب من سحق الطاغية الأسد المدعوم روسياً لهم وكذلك الهروب من شرور مطرقة الجهاديين السنة والذين لنا الفضل بإستخدامهم ببراعة في معركة خط أنبوب الغاز. لا يمكنك أن تلوم الشعب السوري لعدم دعمه مخططاً لشعبهم سُكَ في واشنطن وموسكو. لم تترك القوى العظمى خياراً لمستقبل مثالي يمكن للمعتدلين السوريين أن يكافحوا من أجله وليس هناك من أحد يريد أن يموت من أجل خط إنبوب الغاز.

ما الجواب على كل هذا؟

إن كان هدفنا هو السلام الدائم في الشرق الأوسط فالحل هو وجود حكومات مستقلة في المنطقة وكذلك أمناً وطنياً في حدود بلدنا ومن أجل تحقيق ذلك يجب علينا الإلتزام بأن أي تدخل جديد من قبلنا يجب أن يبقي عيوننا مفتوحة على التاريخ والرغبة القوية للتعلم من دروسه. عندما نفهم السياق التاريخي والسياسي لهذا الصراع عند ذاك سنُخضع قرارات ساستنا إلى فحص دقيق مناسب، إما إستخدام نفس تصوراتنا ولغتنا والتي أيدت حربنا عام ٢٠٠٣ ضد صدام حسين فالنتيجة ستكون أن ساستنا سيقودوننا لأن نصدق بأن تدخلنا في سوريا هو حرب مثالية ضد طاغية وإرهابيين ومتعصبين دينياً.

نحن الأميركيون نميل دائماً لرفض وبسخرية لوجهات نظر العرب والذين ينظرون إلى الأزمة الراهنة على أنها إعادة لنفس المؤامرة القديمة من أجل مد خطوط الأنابيب لنقل النفط والغاز ولنفس الأهداف السياسية. إن كان لدينا سياسة خارجية فاعلة كان يجب علينا أن ندرك بأن الصراع في سوريا هو حرب من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية بغض النظر عن العمليات السرية والحرب غير المعلنة التي نخوضها على مدى (٦٥) عاماً وعندما نرى أن هذه الحرب هي حرب بالوكالة من أجل خط أنابيب الطاقة حينها فقط سوف ندرك حقيقة هذه الأحداث. الأنموذج الأوحد الذي يشرح لنا لِمَ أن الحزب الجمهوري في الكاپيتول هيل وإدارة أوباما مازالا مصرين على تغيير النظام وليس الإصرار على إستتباب وإستقرار المنطقة ولماذا إدارة أوباما لا يمكنها أن تجد لها سوريين معتدلين لخوض هذه الحرب؟ ولماذا فجرت داعش طائرة ركاب روسية؟ ولماذا قامت السعودية بإعدام أحد رجال الدين الشيعة لكي تُحرق سفارتها في طهران؟ ولماذا تقصف روسيا من هم ليسوا مع داعش؟ ولماذا حادت تركيا عن طريقها لتسقط الطائرة الحربية الروسية؟ المليون لاجئ الذين يتدفقون على أوربا اليوم، هم لاجئو حرب خط الأنابيب وضحايا فوضى السي آي أيه.

يقارن تيم كليمنت داعش بمنظمة الفارك في كولومبيا والفارك هي كارتل مخدرات يحمل عقيدة ثورية من أجل إلهام جنوده و”عليك أن تعي بأن داعش هي كارتل نفطي وفي النهاية فأن المال هو من يتحكم بالعقل وأن العقيدة الدينية هي مجرد وسيلة من أجل إلهام المجندين لتقديم أرواحهم من أجل كارتل النفط.”

ستكون سياستنا الخارجية واضحة بمجرد نزع هذا الغطاء الإنساني وإدراك الصراع السوري على أنه حرب نفط، فكما يهرب السوريون إلى أوربا فأن الأمريكان كذلك لا يرغبون بإرسال أطفالهم للموت من أجل خط الأنابيب، بدلاً عن ذلك يجب أن تكون أولى أولوياتنا هي شيء لم يذكره أحد في السابق ألا وهو: “نحتاج إلى أن نركل إدماننا لنفط الشرق الأوسط” وهو هدف تتزايد إمكانياته في الوقت الحاضر ولكي تصبح الولايات المتحدة أكثر إستقلالية في إعتمادها على الطاقة. الشئ الآخر أيضاً أننا نحتاج إلى تقليل وجودنا العسكري في الشرق الأوسط ولنترك العرب يديرون بلادهم بأنفسهم. ليس للولايات المتحدة أي دور شرعي في هذا الصراع غير تقديم المساعدة الإنسانية وضمان أمن حدود إسرائيل[13]. بينما الحقائق تبرهن لنا بأننا لعبنا دوراً في خلق الأزمة ولكن التاريخ يروي كذلك بأننا لا نملك إلا القليل من القوة لإنهائها. 

 ونحن نتأمل التاريخ فسنجده مثيراً حقاً في إتساقه العجيب، في الواقع فأن مآل كل تدخل عنيف قام به بلدنا في الشرق الأوسط ومنذ الحرب العالمية الثانية وليومنا هذا كان مصيره فشلاً ذريعاً ومزرياً وإنتكاسة مرعبة ومكلفة. لقد وجد تقرير أعد من قبل وزارة الدفاع الأميركية بأن “المعلومات قد أثبتت أن هناك إرتباطاً وثيقاً بين تورط الولايات المتحدة في الخارج وبين زيادة العمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة”. دعونا نواجه الحقيقة فأن ما ندعوه “الحرب على الإرهاب” هو حقاً مجرد حرب نفط أخرى! لقد بددنا (٦) تريليونات من الدولارات على ثلاثة حروب خارجية وعلى بناء دولة الحرب والأمن الوطني في الداخل منذ أن أعلن رجل النفط ديك چيني “الحرب الطويلة” عام ٢٠٠١. كان الرابح الوحيد من كل ذلك هم مقاولو السلاح وشركات النفط والتي حققت أرباحاً تاريخية وكذلك وكالات الإستخبارات والتي نمت قوتها وهيمنتها بإطراد والتي أضرت بنشاطها هذا بحرياتنا وفي المقابل فقد إستفاد الجهاديون من تدخلاتنا كونها أفضل وسيلة لتجنيد الأتباع. لقد تنازلنا عن قيمنا وذبحنا شبابنا وقتلنا مئات الآلاف من الأبرياء وهدمنا مثاليتنا وبددنا كنوزنا الوطنية في مغامرات مكلفة لا طائل منها في الخارج ومن خلال ذلك فقد ساعدنا أسوء أعدائنا وحولوا أمريكا من شعلة حرية العالم إلى دولة أمن ومتابعة وإلى دولة منبوذة أخلاقيا على مستوى العالم.

لقد حذر الآباء المؤسسون الأميركيين من الجيوش القائمة وكذلك من الإشتباكات في الخارج وكما وصفها جون كوينسي آدم[14] بكلمات قليلة “الذهاب إلى الخارج للبحث عن الوحش لتدميره”. هؤلاء الرجال الحكماء فهموا بأن الإمپريالية في الخارج لا يمكن تتواءم مع الديمقراطية والحقوق المدنية في الداخل. كان صدى تلك الآراء المثالية حاضراً في ميثاق الأطلسي وهي بأن كل شعب له الحق بتقرير مصيره ولكن على مدى سبعة عقود فأن الأخوين دالاس وعصابة ديك چيني والمحافظين الجدد وأمثالهم قد خطفوا المبادئ الأساسية والمثالية الأميركية ونشروا عساكرنا وأجهزة إستخباراتنا لخدمة المصالح التجارية للشركات الكبرى وبالتحديد شركات النفط ومقاولي الأسلحة والذين في الواقع هم القتلة في هذه النزاعات.

لقد حان الوقت كي تبتعد أميركا عن هذه الإمبريالية الجديدة والعودة إلى خط المثالية والديمقراطية. يجب علينا ترك العرب لإدارة بلدانهم وتوجيه طاقاتنا إلى الجهود العظيمة لشعبنا داخل بلدنا. نحن نحتاج إلى أن نبدأ هذه العملية وليس غزو سوريا ولن يتم ذلك إلا من خلال إنهاء الإدمان المدمر من أجل النفط والذي غلف السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدى نصف قرن.


[1] قتل روبرت كينيدي بتاريخ ٥ حزيران ١٩٦٨ والمتهم بقتله هو سرحان بشارة سرحان وهو من أصل فلسطيني ومازال يقضي عقوبة السجن المؤبد ليومنا هذا.

[2] وهي ترجمة حرفية لداعش  ISIL=ISLAMIC STATE IN IRAQ & LEVANT يستخدم الكاتب عنوان

[3] الرئيس الأمريكي فيما بعد.

[4] إعلان الأطلسي هو الإعلان الذي وقعه الرئيس الأمريكي روزڤلت ورئيس وزراء بريطانيا ونستون چرچل في ١٤ آب ١٩٤١ عقب اجتماع لهما عقد في مقاطعة نيوفنلاند الكندية والذي يحدد بصورة واسعة أهداف الولايات المتحدة وبريطانيا من الحرب. (المعرب)

[5] في الحقيقة فأن الشرط الذي وضعه روزڤلت كان هدفه هو إنهاء المرحلة الكولونيالية تاريخياً وتدشيناً للمرحلة الإمپريالية الأميركية الحديثة وهذا ما حصل فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية حين أفلُت وإنسحبت الإمپرياليات القديمة أمام زحف الإمپريالية الأميركية الجديدة كقوة عظمى وإستبدلت الجيوش بالسي آي أيه والشركات العابرة للأوطان. (المعرب).

[6] MI6

[7] يذكر كاتب المقال ” بعد خمسة أعوام” وهذا غير دقيق.

[8] المقصود هنا، أكثر الظن، بأنه كان هناك فريقاً للسي آي أيه في العراق ومنهم السعدي وصدام وغيرهم كثيرون عسكريون ومدنيون وليس بالضرورة أن يكونا يعرفان بعضهما البعض حيث أن من المعروف أن صدام كان لاجئاً في مصر أثناء قيام إنقلاب شباط ١٩٦٣ وكان بمستوى أقل من السعدي في قيادة البعث حيث كان السعدي هو الأمين العام للحزب.

[9] المعلومة غير واضحة عمن يتكلم الكاتب فهل هو يقصد عن التصفيات الجسدية للقادة العسكريين والشيوعيين يوم إنقلاب الثامن من شباط ١٩٦٣ وما تلاه والتي نفذها حزب البعث أم عن التصفيات التي قام بها صدام بحق القيادة البعثية بعد إستيلائه على السلطة في تموز ١٩٧٩أو  عن التصفيات التي لم تنقطع منذ بداية تموز ١٩٦٨ سواء بحق أقطاب بعثية أم مناوئين سياسيين؟ على أي حال فأن الأمريكان كانوا دائماً ما يزودون البعثيين بقوائم التصفيات عمن يشعرون أنهم يمثلون خطراً على مصالحهم فالمرة الأولى كانت في إنقلاب شباط ١٩٦٣ وبعدها في تموز ١٩٧٩ وبعدها عام ١٩٩٥! وهذا ما ينطبق على ما حدث في إندونيسيا عام ١٩٦٥ بقيادة وكيل الأميركان الجنرال سوهارتو حيث تمت تصفية بين ٥٠٠ ألف إلى ٦٠٠ شخص في خلال أسابيع قليلة.

[10] السفير الأمريكي كان حاضراً في التظاهرات التي قامت في بعض المدن السورية وقد تدخل بشكل بعيد عن كل الأعراف الدبلوماسية من خلال إظهار دعمه للتظاهرات وتحركه اللافت. (المعرب)

[11]ربما يكون هذا تعبيرا سياسيا من قبل الكاتب نتيجة قلة معرفته حيث أن بريمر لم يرفع الشيعة إلى السلطة إنما هو أسس للطائفية السياسية حين قسم المجتمع العراقي إلى ثلاث فئات (شيعة، سنة، أكراد) وحسب نسب التمثيل لعدد نفوس كل فئة (٦٠٪، ٢٠٪،٢٠٪) على التوالي. لقد أسس بريمر مجلس حكم تناوب على رئاسته شهرياً شخص بغض النظر عن هويته الإثنية أو الطائفية حيث أعتمد الترتيب الأبجدي للأسماء إلى أن جرت أول انتخابات برلمانية عام ٢٠٠٦ حسب الدستور.

[12] هذه المعلومة تحتاج إلى تأكيد ولا أعتقد أنها دقيقة فالمعروف أن عماد الجيش العراقي هم نواب الضباط والعرفاء والجنود متطوعون أو مكلفون ينحدرون من جنوب ووسط العراق حيث الكتلة البشرية الكبرى ما عدا طبعاً فئة الضباط فهم في الغالب ينحدرون من مناطق معينة خاصة من غرب وشمال غرب العراق وذلك لأسباب معروفة.

[13] لإعتبارات معروفة درج الساسة الأمريكيون على أن ضمان أمن إسرائيل هو عمل شرعي مفروغ منه وهو أولوية كبرى وعلى ما يبدو أن الكاتب يعتقد بذلك أيضاً ولا نعرف كيف إعتبرت تلك الحماية شرعية في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بالمشاركة في ذبح شعوب المنطقة من خلال تدخلها السافر في شؤونها. كذلك فأن الكاتب لم يشر إلى أن إسرائيل هي شريكة بل حليفة لكل الأنظمة الإستبدادية في المنطقة والتي يسميها الكاتب حلفاء الولايات المتحدة.

[14] جون كوينسي آدمز هو الرئيس السادس للولايات المتحدة من ١٨٢٥-١٨٢٩

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!