التدخل الأميركي الخفي في العراق ١٩٥٨-١٩٦٣

التدخل الأميركي الخفي في العراق ١٩٥٨-١٩٦٣

بدايات التغيير المدعوم أميركياً للنظام في العراق الحديث – وليام زيمان

مقدمة المعرب

أطروحة قدمها السيد وليم زيمان إلى فرع جامعة كاليفورنيا الرسمية للفنون المتعددة في مدينة بومونا عام ٢٠٠٦ كإستيفاء جزئي لمتطلبات الحصول على درجة الماستر في التاريخ قمنا بترجمتها من أجل الإطلاع على بعض الحقائق التي حاول الباحث الحصول على أسرارها الدفينة رغم مرور أكثر من ستين عاماً على أحداثها. الأطروحة عبارة عن بحث وتحليل أكاديمي يؤرخ للأحداث التي غيرت وجه العراق بل والمنطقة كلها منذ عام ١٩٥٨. تعرض الأطروحة الكثير من القرائن والوثائق التي تؤكد تدخل الولايات المتحدة الأميريكية وبريطانيا في الشؤون العراقية بطرق معلنة تارة ومستترة تارة أخرى في سبيل تغيير أنظمة الحكم فيه ومن أجل تحقيق مصالحهما وإستمرار السيطرة عليه مستفيدتين من الظروف الموضوعية والذاتية لطبيعة العراق الجيوسياسية. رغم أن الكاتب قد إعتمد على الكثير من الوثائق والشهادات الشفاهية وكذلك على ما كتبه الآخرون وخاصة من غير العراقيين دعماً لإستنتاجاته وما واجهه من صعوبات في سبر أغوار السرية للمعلومات الخاصة بتلك الأحداث الجسام فما زال الكثير مخبأً في خزائن أسرار المخابرات الغربية، الأميريكية والبريطانية تحديداً، لم يحن بعد وقت كشف النقاب عنه وذلك لسبب بسيط وهو إستمرار التدخل منذ ستين عاماً وأن أي فضح لذلك التدخل سيسبب للدولة الأميركية الحرج وإتهامها بالمسؤولية عن كل ما جرى للعراقيين من مآسي ومذابح طوال ستة عقود. ما يلاحظ على الأطروحة بأنها تخلو من إشارة إلى أي مصدر من الذين كانوا هدفاً لذلك التدخل وهم الشيوعيون واليساريون عموماً بالإضافة إلى القاسميين فلم نجد أية إشارة للقاء الضحايا بل إكتفت الإطروحة بنقل المعلومة عن الآخرين وهم بدورهم قد نقلوها عن أصحاب العلاقة. كتابات سعيد أبوريش كانت مصدراً رئيسياً لمعلومات الأطروحة وما نقله عن هاني الفكيكي كان نزراً يسيراً من الفضائح. هناك الكثير من المراجع المتوفرة والتي لم تذكر في البحث تدعم البرهنة على التدخل السافر وحياكة المؤامرات طوال تلك الفترة. يمكننا تحديد بعضاً من تلك المراجع ومن أهمها في رأينا هو “محاضر محادثات الوحدة الثلاثية في نيسان ١٩٦٣ وهي من إصدارات مؤسسة الأهرام المصرية”. تلك المحاضر دونت إعتراف المجتمعين بأن مصر عبد الناصر قد تدخلت بشكل سافر في إنقلاب الشواف في الموصل وفيها يعترف عبد الناصر بأنه لم ينقطع عن دفع الأموال وتزويد حزب البعث بالسلاح ولم ينفي البعثيون المجتمعون تلك الحقائق بل شكروه على مواقفه “القومية” تلك وهذه لعمري خيانة لا تغتفر. رئيس الجمهورية السورية البعثي أمين الحافظ هو الآخر والذي حل لاجئاً في بغداد بقية حياته بعد طرده من سوريا إعترف بنفسه في برنامج “شاهد على العصر” الذي بثته قناة الجزيرة قبل سقوط نظام البعث في بغداد بأنه هو من كان يزود المتآمرين في غرب العراق بالمال والسلاح وبتكليف مباشر من عبد الناصر نفسه والحافظ هذامازالت شبهة تسهيل إختراق الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين إلى سوريا تلاحقه. هناك أيضاً شهادة الصحافي مصطفى أمين أثناء التحقيق معه في قضية إتهامه بالجاسوسية عام ١٩٦٥ والعمل مع المخابرات الأميركية إعترف كيف أنه كان ينسق مع المخابرات عن طريق صديقه بروس أوديل في سبيل تقويض النظام في بغداد وإبراز شخصية عارف بالضد من قاسم. بالنسبة للعراقيين فقد كان برهان التدخل جلياً وهو ظهور الأسلحة المصنعة في مصر وخاصة رشاشات پورسعيد في يوم إنقلاب ٨ شباط في شوارع بغداد تحملها ميليشيات الحرس القومي، حينها كانت فوارغ الأطلاقات النارية المتناثرة تلتقط من الطرق وقد وسمت بعبارة (مصر – ٩ ملم). لم يعرج الكاتب إلى بيانات إنقلاب ٨ شباط وإعلانات القتل والإعدامات التي تصدرت الصحف وإلى البيان رقم (١٣) الذي أصدره الحاكم العسكري العام رشيد مصلح التكريتي والذي أباح فيه إبادة الشيوعيين والمتعاطفين معهم ليثبت تنفيذ الهدف الأميركي. لم يلتقي الكاتب بأي شخصية من الشخصيات التي عاصرت تلك الأحداث ومن الملاحظات أيضاً على البحث هي خلوه من أية بيانات رقمية إحصائية، سياسياً وإقتصادياً وسكانياً وللإتجاهات السائدة في العراق آنئذٍ. أهمل الكاتب تماماً ذكر المؤسسة الدينية في العراق بطرفيها الشيعي والسني وكيف أنها تأثرت بل تضررت مصالحها وكذلك دورها في الأحداث والدعاية ضد النظام القائم وتهييج الجماهير ورفع شعارات دينية ديماغوغية تحركها الدوائر الشاهنشاهية والأزهرية وبالنتيجة تحالفها مع البعثيين ونفس الشيء فلم يذكر الكاتب شيئاً عن تحالف البرزاني مع حزب البعث ودوره في إضعاف الدولة والنظام وتأييده للإنقلاب. هناك قصة الأستاذ الجامعي اللبناني إيلي زغيب الذي كان يدرس في جامعة بغداد والذي رصدت مخابرات قاسم علاقاته بالسي آي أيه وكيف تم تهريبه بعد الإنقلاب بعد إفتضاح أمره من قبل بعض الإنقلابيين. أهمل الكاتب كذلك ولو بإيجاز منجزات الثورة الهائلة كتشريع قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية وإلغاء قانون دعاوى العشائر وكذلك تعريق الوظائف العامة وإقامة المدن الجديدة والمشاريع العمرانية لإحتواء للفقراء كانوا يشكلون حزام الفقر حول بغداد حيث يعيشون في أكواخ الطين (الصرائف) إلا أنه قد ذكر تأميم الأراضي الغير مستغلة وسحب إمتيازاتها من شركات النفط والتي كانت تمثل ٩٩٫٥٪ من أراضي العراق.
لقد أضفنا بعض التعليقات على بعض المعلومات الواردة في الإطروحة سواء كانت على شكل توضيح وإستزادة في المعلومة أو شرحاً أو كانت تصحيحاً لمعلومات غير دقيقة وهي موجودة في آخر كل فصل من الفصول التسعة وملاحقها. يخلص مقدم الأطروحة بأن غزو العراق كان مطروحاً على طاولة الساسة الأميركيين دائماً وبالتحديد منذ يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ وحتى يوم تحققه في نيسان ٢٠٠٣. سبق الإحتلال إنقلابات متعددة كان أكثرها دموية هو إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ والإطاحة بنظام الزعيم عبد الكريم قاسم والمجازر التي أقترفت بحق الأبرياء. يصف السيد زيمان هذه الورقة بأنها ثمرة مشروع‏ بحثي إمتد لثلاث سنوات في التاريخ الشفاهي يوثق التدخل الخفي الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية في العراق إبتداءاً من ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨وحتى إنقلاب حزب البعث الذي أطاح بحكومة قاسم في ٨ شباط ١٩٦٣ وتداعياته. تركز الورقة بصورة أساسية على نشاطات وكالة المخابرات المركزية (سي آي أيه) ومساعدتها لحزب البعث وغيره من العناصر المناوئة للنظام، بمن فيهم عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة والتمرد الكردي. يثني السيد زيمان على الكتاب والباحثين الذين تناولوا موضوع التدخل والإطاحة في النهاية بالحكومة الوطنية ويقول بإن التاريخ سيقدر مواقف العديد من الكتّاب الذين فضحوا تورط السي آي أيه منذ البدايات الأولى للعراق الحديث وربما كان على آخرين أن يحذو حذوهم.
يستند هذا السرد إلى الكتب المنشورة والمقالات والتقارير والصحف والمجلات وبشكل كبير على الوثائق الحكومية لا سيما وثائق مكتب “العلاقات الخارجية للولايات المتحدة”، وعلى ما حوته المكتبات الرئاسية من أوراق عن الموضوع. توثق هذه الورقة أيضاً محاولة السي آي أيه وبإستمرار لجم أية محاولة لإلقاء الضوء على نشاطاتها ضد حكومة قاسم. يقول زيمان إن التاريخ الشفاهي قد جاءنا بمعلومات جديدة حول الإنقلاب وبضمنها معلومات لم تُنشر من قبل موظفي الخدمة الخارجية السابقين مثل بيل (وليم) ليكلاند وجيمس ايكنز، والمسؤولين السابقين في السي آي أيه مثل أد كين وآرچيبولد روزفلت وآرت كالاهان، ومن المشارك في الإنقلاب عضو قيادة حزب البعث هاني الفكيكي.

الفصل الأول

Military vehicles move slowly through the crowded streets in Baghdad, Iraq, July 14, 1958, a few hours after the military staged a coup today, taking control of the country, overthrowing the monarchy, declaring a republic. King Feisal II and Crown Prince Abdullah were shot to death in his palace at the height of the coup. (AP Photo/HO)
عربات عسكرية تشق طريقها ببطأ في شوارع بغداد بين حشود الجماهير٫ ١٤ تموز ٫١٩٥٨ بعد بضع ساعات من قيام العسكريين بإنقلاب هذا اليوم والسيطرة على البلاد وإسقاط الملكية وإعلان الجمهورية. قتل الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله في قصرهما أثناء ذروة الإنقلاب. صورة نقلتها وكالة أسيوشيتد بريس الأميركية

مقدمــــــة

في يوم ١٤ تموز ١٩٥٨ قاد الزعيم عبد الكريم قاسم إنقلاباً عسكرياً أطاح بالحكومة التابعة لبريطانيا والتي حكمت العراق منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ولقد أُصيبت واشنطن حينها بالذهول وعلى مدى إسبوع كامل كانت تلك الثورة هي الخبر المهيمن على صفحات الـ “نيويورك تايمز”. قبل ذلك وفي نفس السنة نجح الزعيم المصري جمال عبد الناصر، صاحب الشعبية الواسعة، والذي إقتنى أسلحة سوڤيتية، في توحيد بلده مع سوريا وإقامة الجمهورية العربية المتحدة (ج.ع.م.) في وقت كان فيه المد القومي العربي في أوجه لذا إعتبرت مؤسسة المخابرات الأميركية إن ذلك الإنقلاب يمثل تطوراً كارثياً.
زاد قلق السي آي أيه في آذار ١٩٥٩ حين إستعمل قاسم قوى شيوعية لقمع تمرد قومي عربي في الموصل. قدم ألن دلاس مدير السي آي أيه في نيسان من ذلك العام شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بأن الوضع في العراق هو الوضع “الأشد خطورةً في العالم”، وأن القوى الشيوعية على وشك الإستيلاء على الحكم بشكل تام“. إحتدمت حينها النقاشات وبلغت ذروتها حول العراق في أروقة السي آي أيه ومجلس الأمن القومي. خلال السنوات الأربع اللاحقة والتي أُقتُرحت أثناءها العديد من الحلول ومن بينها “غزو العراق“، وكما هو مدوّن في السجلات الرسمية الأميركية المنشورة. إن ما تبقى من خلاف، يدور حول فيما إذا ساعدت وكالة المخابرات الأميركية (السي آي أيه) حزب البعث في إنجاح إنقلابه ضد قاسم في ٨ شباط ١٩٦٣؟ إن هذه الأطروحة تهدف إلى تبيان قوة ومدى الدعم الذي تلقاه حزب البعث من السي آي أيه سواء أكان قبل الإنقلاب أم بعده أو في فترات مختلفة خلال الخمس سنوات[1] من حكم قاسم، ما عدا ما قامت به الوكالة بعمليات خفية ضد العراق؟
نشر ويليام بلوم المسؤول السابق في وزارة الخارجية الامريكية عام ١٩٨٦ حكايته في كتابه الـ “سي آي أيه: التاريخ المنسي”، ثم جرى تنقيح وتوسيع الكتاب بعد ذلك في عام ١٩٩٥ وصدر بعنوان “قتل الأمل: التدخلات العسكرية وتدخلات السي آي أيه للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية”. ترك بلوم وزارة الخارجية عام ١٩٦٧ إحتجاجاً على السياسة الأميركية في ڤيتنام وكان كتابه مؤلفاً موسوعياً بطبيعته، حيث عدِّد بالتفصيل وبإسلوب بحثي كل عملية كبيرة نفذتها السي آي أيه منذ عام ١٩٤٥. كان الحدث الغائب وعلى نحو ملفت عن قائمته، والتي شملت (٥٥) بلداً، هو التدخل الأميركي في “العراق” منذ ١٩٥٨ حتى ١٩٦٣. يتسم بلوم بالعمق فهو لم يترك حجراً إلا وقلبه، هل كان ذلك مجرد حذف لأن ليس هناك “شيء” أم أن الأدلة كانت مدفونة عميقاً أو أنها ضئيلة مما برر عدم تخصيص فصل خاص في كتابه عن العراق؟ تسعى هذه الورقة للإجابة عن هذا السؤال: هل أن هناك توثيق تاريخي سليم يسند الإصرار القائل بأن الأميركيين قد تدخلوا في العراق خلال السنوات الخمس الاولى من إستقلاله الحقيقي، أم ان تلك شائعات لا أساس لها في الواقع؟ مع وجود الجنود الأميركيين وغيرهم في العراق الآن وربما سيستمرون لسنوات عديدة قادمة، فأن الزمن الحالي هو الأشد إلحاحاً لبحث تاريخ أصل التدخل الأميركي الخفي في العراق الحديث. كان قد صدر، بالطبع، الكثير من الكتب وكتبت الكثير من المقالات عن صدام حسين وعن حزب البعث وتاريخ العراق الحديث منذ عام ١٩٥٨ ولكن القليل منها من يذكر ذلك التدخل الخفي في الفترة من عام ١٩٥٨الى عام ١٩٦٣. إن غموض المواد المتعلقة بنشاط السي آي أيه في المراحل الاولى من العراق الحديث ربما يعود بشكل كبير إلى أن نشر مثل هذه المواد قد يكون غير مناسب للطرفين؛ عراق البعث والولايات المتحدة منذ عام ١٩٦٣ ولغاية الحاضر[2]. إن حزب البعث والذي يصوُّر نفسه على أنه حزب قومي عربي مناهض للغرب ومعادي لإسرائيل فأن من شأن تحالفه الذرائعي النفعي الخفي مع السي آي أيه، المؤسسة المخزية، أن يُلحق ضرراً فادحاً بصورته في الداخل فضلاً عن صورته في عموم العالم العربي. كانت السي آي أيه متورطة بصورة مباشرة في محاولات إغتيال إستهدفت قاسم عام ١٩٦٠، وحتى ربما في عام ١٩٥٩ وقد وصل حزب البعث إلى السلطة عام ١٩٦٣ على حد وصف أحد الوزراء بـ “قطار أمريكي”. الحكام العراقيون لا يستطيعون أن يتحملوا بأن يطلع الرأي العام على هذه الحقائق وعلى تعاونهم مع الولايات المتحدة والولايات المتحدة بدورها لم يكن لديها سبب للإعتراف علنا عن تواطئها في إيصال حزب البعث الى السلطة، فالعمليات الخفية ولا سيما الإغتيالات، هي عمليات سرية للغاية ولا يعلم بها الكثيرون من عملاء الوكالة أنفسهم او المسؤولون الرسميون الكبار والذين لا يعتقدون ان الوكالة متورطة في هذه العمليات حيث يُستخدَم التضليل المتعمد في الإجتماعات الرسمية بصورة روتينية لأغراض الحفاظ على السرية من خلال تحريف المحاضر وإيهام المسؤولين الكبار والتصديق بأن السي آي أيه لا تلجأ الى الإغتيالات أو غيرها من أساليب العنف. إن الإصرار على منوال “الدعاية البيضاء” العميقة جعل من الصعب إعادة بناء هذا التاريخ. إن دراسة المراحل المبكرة من تاريخ حزب البعث العراقي تبين أن المسؤولين في العراق وفي الولايات المتحدة قد ذهبوا بعيداً جداً لنفي والتستر على التورط الأميركي في العراق الحديث. إن الكتابات عن التاريخ المبكر لحزب البعث العراقي سواء الأميركية منها أو العراقية قد إستتبعت المواقف الرسمية لحكومتي البلدين.
ذهب الباحثان البارزان بشؤون العراق ماريون فاروق[3] وپيتر سلوگليت، حقاً، في كتابهما “العراق منذ ١٩٥٨من الثورة الى الدكتاتورية‏” إلى حد القول “إن فاعلية [هذه الكتابات الأولى] قد عرقلت التوصل الى فهم واضح لما كان يجري ولا ينبغي الإستهانة بها نظرا للعلاقات الوثيقة التي تربط هؤلاء الكتّاب بالمؤسسة المخابراتية الأميركية”. تبدأ هذه الدراسة بتحليل المـؤرخات التي تجنبت الخوض في تفاصيل تورط الولايات المتحدة وكذلك تقديم الأسباب المحتملة لهذا التعتيم والتشويش. ستتناول هذه الورقة كذلك، بإستفاضة، المؤرخات التي تساعد على إعادة بناء تسلسل أحداث تدخل الولايات المتحدة في العراق في الفترة بين عام ١٩٥٨وعام ١٩٦٣، وبضمنها تفسيرات حول الإلتباس والتناقض الموجود في تلك المؤرخات.
أول مؤتمر صحفي للزعيم عبد الكريم قاسم بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨

[1] كانت أربع سنين وستة أشهر تقريباً من ١٤ تموز ١٩٥٨ وحتى ٨ شباط ١٩٦٣.
[2] صدر كتاب إرث من رماد (قصة السي آي أيه) لتيم وينر عام ٢٠٠٨ أي بعد نشر هذه الإطروحة LEGACY OF ASHES-TIM WIENER يروي بشيء من التفصيل عن التدخل الأميركي في العراق بعد ١٤ تموز ١٩٥٨ ودعم حزب البعث في إسقاط نظام قاسم ودور العميل بروس أوديل في تلك النشاطات (المعرب).
[3] السيدة ماريون فاروق سلوگليت (١٩٣٦-١٩٩٦) هي زوجة الشهيد النقيب عمر فاروق محمود الأوقاتي (١٩٣٢-١٩٦٣) الذي إغتاله الإنقلابيون في يوم ٨ شباط ١٩٦٣. إقترنت السيدة ماريون بعد ذلك بالأستاذ پيتر سلوگليت الذي شاركها في كتابة كتابهما الصادر عام ١٩٨٥ والمعنون: العراق منذ ١٩٥٨ من الثورة إلى الدكتاتورية. ظلت السيدة ماريون تحمل إسم زوجها عمر فاروق حتى رحيلها. [المعرب]

الفصل الثاني

مؤرخات التدخل الخفي الأميركي في العراق في أعوام ١٩٥٨- ١٩٦٣

إن أحد المؤرخات المبكرة التي أشار إليهما الكاتبان سلوگليت في كتابهما‏ “العراق منذ ١٩٥٨من الثورة الى الدكتاتورية‏”‏، هو كتاب كامل ابو جابر “حزب البعث العربي الإشتراكي: التاريخ والآيديولوجيا والتنظيم”. لم يأتي الدكتور جابر على ذكر أي دور للسي آي أيه في إنقلاب ١٩٦٣ والتي حامت الشكوك واسعة حول دورها بعد وقوعه[1]، إذ كانت خطط الإنقلاب معروفة للكثير وقد إحتدمت نقاشات حامية حولها بين البعثيين السوريين والبعثيين العراقيين بشأن الإعتماد على الأميركيين، ولكن جابر قد إستبعد أية ذكر للتورط الأميركي وحتى أنه لم يذكر أعمال التعذيب والمجازر بحق الشيوعيين التي إقترفها البعثيون عام ١٩٦٣ وعن التقارير التي ذكرت أنها تمت بمساعدة السي آي أيه، حيث إبتدأت عمليات التصفية الجسدية في شباط بعد الإنقلاب وإستمرت على مدى التسعة أشهر التالية التي إستولى فيها البعث مؤقتاً على السلطة عام ١٩٦٣. تشير إحدى التقديرات الى قتل ما يقرب الـ (٥٫٠٠٠) شخص إلا أن جابر لم يأت على ذكرها وأقرب شيء جاء على ذكره هو أن البعثيين قد “غيبوا العديد من المواطنين”، الذين “أساء الحرس القومي أحياناً معاملتهم”. لقد صور الإنقلاب على انه حدث عراقي محلي صرف دون تفاصيل عن القسم الأعظم من العنف. يعود سبب إهمال جابر لهذا الحدث بأنه كان يطمح بمنصب وزير خارجية الأردن حين كان يتسنم رئاسة المعهد الأردني للدبلوماسية في عمان منذ عام ٢٠٠٤‏. إن ملك الأردن حسين كان أحد المدرجين على جدول رواتب للسي آي أيه منذ عام ١٩٥٧وحتى مماته عام ١٩٩٩، لذا فأن طموحه لتولي منصب رفيع في الحكومة الأردنية قد منعه من ذكر تعاون السي آي أيه مع حكومة عربية في مؤرخه ذاك.
نشر جون اف. ديڤلن John F. Devlin كذلك كتابه عن حزب البعث بعنوان “حزب البعث: الأصول التاريخية منذ نشأته حتى عام ١٩٦٦”   ولم يذكر كتابه هذا إلى تورط الولايات المتحدة في الإنقلاب عاداً إياه شأناً عراقياً صرفاً. إن ديڤلن هو أحد الذين أشار إليهم الثنائي سلوگليت وذلك لما يملكه من “سنوات الخبرة كمحلل في السي آي أيه”، وبذلك فمن المرجح أنه غض النظر عن ذكر التورط في إنقلاب١٩٦٣ وذلك إما من نتيجة التضليل التام أو التعتيم الذي يعيش فيها هو نفسه جراء ثقافة التكتم الشامل في السي آي أيه.
كريستين هيلمز موس Christine Helms Moss هي الأخرى قد فشلت في كتابها: “العراق: الجناح الشرقي للعالم العربي Iraq: Eastern Flank of the Arab World”، في ذكر أي شيء حول تورط الولايات المتحدة الصميمي في نشوء العراق الحديث وهيلمز تعمل كباحثة في معهد بروكينغزInstitution  Brookings وهي التي نصحت البيت الأبيض والبنتاغون خلال حرب الخليج عام ١٩٩٠-١٩٩١. نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” بأنها كانت أحد الذين أخطأوا في نصيحتهم للإدارة بالسماح لصدام حسين بقمع التمردات الشعبية للشيعة والكرد على أمل الإطاحة به لاحقاً بإنقلاب عسكري. هيلمز، بصفتها مستشارة باحثة للفرع التنفيذي للولايات المتحدة فقد دافعت رسمياً عن فكرة إزالة صدام حسين بإنقلاب عسكري في عام ١٩٩١، فمن السهل علينا ان نفهم لِم كانت تعارض في عام ١٩٨٤، وهي مستشارة الإمپريالية الملهمة، لنشر أسرار تواطؤ الولايات المتحدة في إنقلاب ١٩٦٣ العسكري والذي حمل حزب صدام الى السلطة. يذكر سلوگليت بأن “هيلمز قد إستفادت من مقابلات مع مسؤولين كبار في الحكومة الأميركية وكانت تنزع إلى إعادة نشر ما يملى عليها دون تمحيص أحياناً”.
حذت مؤلفة أخرى حذو هيلمز وهي فيـبي مار[2] Phebe Marr التي نشرت في عام ١٩٨٥ كتابها “تاريخ العراق الحديث” The Modern History of Iraq، والذي يقع في ثلاثمئة صفحة، تناولت فيه حوالي خمسة وستين عاما فقط من تاريخ العراق دون أي ذكر لتورط الولايات المتحدة في إنقلاب١٩٦٣، مقتبسة وعلى نطاق واسع فقرات من مؤلف حنا بطاطو “الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق” والذي يذكر فيه مصدرين مختلفين حول تورط الولايات المتحدة في إنقلاب ١٩٦٣. فيـبي مار وهي الـ “متخصصة” في معهد الولايات المتحدة للسلام United States Institute of Peace التابع للحكومة الأميركية، صاحب القرار المخزي في تعيين دانيل پايپس Daniel Pipes في مجلس إدارته بقرار من الرئيس جورج دبليو بوش أثناء عطلة الكونغرس. المعروف عن هذا المعهد بأنه يعج بالباحثين الموالين للصهيونية وليس من عادته أن يعيِّن خبراءً يفضحون تدخلات السي آي أيه.
هناك بعض الكّتاب العرب لم يكونوا هم أيضاً صريحين في طروحاتهم. نشر أمير إسكندر كتابه “صدام حسين: مناضلا ومفكرا وإنسانا” في عام ١٩٨٠، في ذروة شعبية صدام في العالم العربي وكان عبارة عن سيرة صدام الرسمية ولذلك فقد أتيح للكاتب حصراً الإطلاع على معلومات لم تتوفر لغيره والكتاب هو مجرد قطعة دعائية. إن صورة صدام المغرقة في التملق لم تُبقي أي مصداقية للكتاب وطبعاً مع نسيان لوثة إرتباطاته بالسي آي أيه[3].
هناك مؤلف عربي آخر هو الراحل مجيد خدوري الذي كتب بإستفاضة عن إنقلاب١٩٦٣ في كتابه “العراق الاشتراكي: دراسة في السياسة العراقية منذ ١٩٦٨”، ولكنه لم يذكر أي شيء، حتى من قبيل الشك، عن تورط أميركي. لقد صوَّر خدوري هو الآخر تخطيط الإنقلاب وتنفيذه على انه شأن عراقي. كان رأي الباحثين سلوگليت، في كتاب خدوري بأنه “يعتمد إعتماداً كبيراً على مراجع (عراقية) رسمية “، وأن “مقابلاته كانت مع مسؤولي النظام القائم آنذاك بدلاً من المعارضة”، لذا فأن فيه “مقداراً معيناً من الإنحياز لا مفر منه”. كان خدوري يعمل أستاذاً لدراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، متخصصاً في العراق والشريعة الإسلامية ولكن وبسبب إعتماده على كرم الحكومتين اللتان يتمثل موقفهما الرسمي في أن ليس للأميركيين يد في صعود البعث الى السلطة، فليس من المستغرب أن يتجنب تاريخ نشاط السي آي أيه في بواكير العراق.
بدأت الأمور تتضح في عام ١٩٧٨ عندما أصدر حنا بطاطو مجلده الكلاسيكي “الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق The old Social Classes & Revolutionary Movements in Iraq 1978 ” وهو أول دراسة تاريخية باللغة الإنجليزية تشير إلى تورط السي آي أيه في إنقلاب١٩٦٣. لقد وصم بطاطو بالعار مِمَنْ سبق ذكرهم من الكتّاب المعاصرين لعدم رجوعهم إلى سجل عام كان متاحا للجميع. نقلت صحيفة “الأهرام” المصرية واسعة الإنتشار، في ايلول ١٩٦٣ تأكيدات حسين ملك الأردن بأن السي آي أيه قد إلتقت مراراً بحزب البعث قبل الإنقلاب ومَدَته بقوائم بأسماء “الشيوعيين” الذين قام الحزب بتصفيتهم بكل وحشية بعد إستيلائه على السلطة. نقل بطاطو هذه المعلومة بتحفظ ليُعْلِم القارئ عن إرتباطات حسين بالسي آي أيه، لكنه يضيف بعد ذلك معرفته الشخصية عن إتصالات سرية جرت بين أعضاء في حزب البعث والأميركيين قبل الإنقلاب. إن القليل الذي كان يعرفه حنا بطاطو، وإن بقدر من عدم اليقين، قد دونه “لأجل الحقيقة”، وهو بذلك قد ميّز نفسه عن الآخرين كباحث عميق.
‏نشر الثنائي أديث وإي اف پنروز Edith and E.F. Penrose في عام ١٩٧٨كتابهما “العراق: العلاقات الدولية والتطور الوطني Iraq: International Relations and National Development “. لقد أجريا مقابلات مع “بعثيين عراقيين ذوي إطلاع” والذين أكدوا أن السي آي أيه تعاونت مع البعث في عام ١٩٦٣. أخبرنا الدكتور هاشم جواد وزير خارجية العراق في وقت لاحق بأن وزارته كانت لديها معلومات عن تواطؤ بين البعث والـسي آي أيه. إن هذا الكتاب هو عمل بحثي عميق آخر يكون مرادفاً لمؤلف بطاطو، ويوفر توثيقاً تاريخياً حول التورط الأميركي في إنقلاب ١٩٦٣ في العراق.
نشر ماريون وپيتر سلوگليت في عام ١٩٨٧ كتابهما “العراق منذ عام ١٩٥٨- من الثورة إلى الدكتاتورية”، وهو مؤرخ كامل آخر جرى تحديثه في عام ٢٠٠١. يلخص الثنائي سلوگليت فيه تورط الولايات المتحدة في الإنقلاب بما في ذلك معلومات حصلا عليها من خلال مقابلة “مسؤول كبير سابق في وزارة الخارجية الأميركية” عن دور السي آي أيه فيه. كان هذا المسؤول على الأرجح هو جيمس ايكنز James Akins، السفير السابق في العربية السعودية والسكرتير الثاني للشؤون السياسية في السفارة الأميركية في بغداد وقت الإنقلاب البعثي. إشتهر ايكنز بتعاونه في تقديم معلومات عن دور السي آي أيه في الإنقلاب، ولكنه إمتنع في الآونة الأخيرة المضي في نشر أحداث ١٩٦٣.
نشر ديفيد وايز David Wise في عام ١٩٩١ في صحيفة لوس أنجلس تايمز مقالة “شعب مخدوع” “A People Betrayed”. عرض وايز في روايته شهادات لعملاء في السي آي أيه يعترفون فيها بمحاولة إغتيال فاشلة ضد قاسم كانت من تخطيطهم في عام ١٩٦٠. أصبح هذا التقرير علنياً ووضح الهامش الغامض في التقرير الكبير للجنة چيرچ “Church Commission” عن الإغتيال والذي صدر في عام ١٩٧٥. يرجى عدم الخلط مع محاولة الإغتيال الفاشلة التي نُفذت عام ١٩٥٩ بمشاركة صدام حسين.
نشر عادل درويش وغريغوري الكساندر في عام ١٩٩١ مؤلفهما “بابل اللا المقدسة: التاريخ السري لحرب صدام”. نشر هذا الكتاب الإدعاء الوحيد عن تخطيط البعث مع السي آي أيه للقيام بإنقلاب في العراق عام ١٩٦٤ لكن التخطيط لم يثمر عن شيء، إلاّ أن درويش لم يوضح ذلك بأي هامش كذلك فهو لم يرد على إستفساراتنا بخصوص ذلك الإدعاء. كتب أبو ريش انه “لم تكن هناك محاولة إنقلابية في عام ١٩٦٤”. إن درويش كان هو أيضاً المصدر الوحيد الذي ذكر بالإسم في مقال ريتشارد سيل Richard Sale (سيُناقش لاحقا) والذي يؤكد تورط السي آي أيه في محاولة الإغتيال التي جرت في عام ١٩٥٩. درويش لم يقدم أدلة تؤكد هذه النشاطات لذا فأن مصداقيتها التاريخية ستبقى غير مؤكَّدة.
نشر مالك مفتي في عام ١٩٩٦ كتابه “إختلاق السيادة ” Sovereign Creations، وكان الفصل التاسع من الكتاب المعنون “تجدد الوحدوية: ١٩٦٣-١٩٦٤” غني بالمعلومات حيث يلخص فيه المعلومات الواردة في مؤلفي بطاطو وپنروز ثم يضيف معلومات عن الجدال البعثي الذي دار بين العناصر السورية والعراقية، والذي حصل عليه في مقابلة له أجراها مع الوزير السوري السابق جمال الأتاسي. يقدم المفتي توثيقاً اضافياً لتعاون الولايات المتحدة في إنقلاب١٩٦٣.
يُعد سعيد أبو ريش ربما من أكثر الكتاب إكتمالاً في موضوع التدخل الأميركي في العراق خلال الفترة الممتدة من ١٩٥٨الى ١٩٦٣ فكتاباه “صداقة وحشية: الغرب والنخبة العربية”، الصادر عام ١٩٩٧، و”صدام حسين: سياسة الانتقام”، الصادر عام ٢٠٠٠، يعترفان بما ورد في بحوث كتّاب سابقين مثل مالك مفتي وحنا بطاطو وهيكل وسلوگليت إلا أنه يذهب أبعد منهم بكثير حيث أن مساهمته العظيمة كونه قد أضاف معلومات مفصَّلة حصل عليها بخبرته الشخصية بالإضافة إلى مقابلات كثيرة مع شخصيات رئيسية قامت بأدوار هامة في إنقلاب١٩٦٣ مثل جيمس كرتچفيلد، مسؤول الشرق الأوسط في السي آي أيه خلال عام ١٩٦٣ وهاني الفكيكي عضو قيادة حزب البعث خلال عام ١٩٦٣ والعديد من الأميركيين والعراقيين الآخرين بالأسماء الصريحة أو السرية. ينقل كتاب “صداقة وحشية” (٥٨) مقابلة بالإسماء الصريحة و (٢٩) مقابلة سراً. يورد كذلك كتاب “صدام حسين” (٦٧) مقابلة بالإسماء الصريحة و(٤٦) مقابلة سراً. إستخدم أبو ريش فطنته الشخصية للولوج في العلاقات العراقية-الأميركية الخفية من خلال ما إكتسبه من خبرة أثناء عمله الصحفي في الشرق الأوسط إبان الخمسينيات والستينيات وكذلك كمنسق بين الشرق والغرب في توريد أسلحة ومواد ستراتيجية للعراق خلال الفترة من ١٩٧٤ الى ١٩٧٧ ومن ١٩٨١ الى ١٩٨٤.
أبو ريش، وهو شخص من أصل فلسطيني، عمل صحفياً وكاتباً في الشرق الأوسط إبان الخمسينيات والستينيات وكان في السبعينيات من المعجبين بصدام حسين، لذا ذهب للعمل لدى الحكومة العراقية. صدام لم يكن في ذلك الوقت قد إرتكب بعد أعمال القتل الكثيرة وكان ما يزال ذو شعبية واسعة في العالم العربي إذ أن جماح العنف وسلوكه المنحرف كان مكبوحاً بسبب وجود الرئيس البكر، قريبه التكريتي[4]. إستخدمت حكومة البكر- صدام البعثية ثروة النفط لرفع مستوى معيشة الفرد العراقي الإعتيادي. إعتقد أبو ريش، مثله مثل الكثير من العرب، بأن عراق البعث يمثل فرصة أمام العرب لتحقيق التوازن مع إسرائيل والغرب من خلال تحديث وتطوير أسلحة نووية. عندما أتضح لأبي ريش في عام ١٩٨٤ ان صداماً كان يستخدم اسلحة كيمياوية فقد دفعه نفوره الأخلاقي الى الإستقالة كوسيط أسلحة ومواد ستراتيجية مما كلفه ذلك ثمناً شخصياً باهظاً. عاد أبو ريش الى مهنة الصحافة بعد خيبة أمله في التحولات التي شهدها العراق منذ أن تولى صدام حسين مقاليد السلطة كاملة ليدفع ببلده الى حرب كارثية مع إيران في السنوات ١٩٨٠-١٩٨٨. أصبح أبو ريش ومنذ ذلك الوقت كاتباً غزير الإنتاج حول الشرق الأوسط، وقد وفرت كتبه تلك نظرة معمقة في هذا المجال.
نشر ريتشارد سيل من وكالة يونايتد پرس انترناشنال (UPI) عام ٢٠٠٣ تقريراً بعنوان “خاص: مبكراً، كان صدام هو مفتاح مؤامرة السي آي أيه”[5]. إستناداً إلى مقابلات مع “حزمة من الدبلوماسيين الأميركيين السابقين والباحثين البريطانيين ومسؤولي مخابرات أميركيين سابقين”، إنتشر مقال سيل بشكل واسع على الإنترنت وهو الذي قدم المعلومة الوحيدة الموجودة بالتفصيل عن تفويض السي آي أيه وتورطها في محاولة الإغتيال الشهيرة التي استهدفت قاسم في ت١ /١٩٥٩. يذكر سيل فان الهجوم المسلح الفاشل نُفذ بمشاركة صدام حسين، بوصفه عميلاً أجيراً للسي آي أيه، والتي قامت هي بدورها بإخلائه وتدريبه ودعمه في منفاه لاحقاً. تؤكد هذه القصة ظنوناً كانت ترد كتلميحات فقط في مؤرخات سابقة ولكن هناك علامات إستفهام على رواية سيل فأن أبو ريش يعتقد أن علاقة السي آي أيه بصدام حسين قبل هروبه الى مصر ليست ممكنة. ويعتقد ليكلاند السكرتير السياسي الأول في السفارة الامريكية في بغداد عام ١٩٦٣ أيضا أن تعاون الوكالة مبكراً في محاولة الإغتيال التي جرت عام ١٩٥٩ هو مجرد وهم. إيكنز كذلك أهمل رواية سيل حيث كتب: “ان ريتشارد سيل شخص جيد جدا، وأقول انه موضع ثقة على نحو إستثنائي، ولكن إذا قال أو كتب أو إعتقد ان السي آي أيه كانت وراء هذا الهجوم فأنه مخطئ”. إن إدعاءات سيل من دون وجود ما يؤكدها لا يمكن إعتبارها وقائعاً تاريخية.
نشر المؤلف المختص بشؤون الشرق الأوسط والمراسل جون كي كولي في John K. Cooley عام ٢٠٠٥ كتابه “تحالف ضد بابل: الولايات المتحدة واسرائيل والعراق An Alliance Against Babylon: The U.S., Israel and Iraq حيث يسلط الضوء فيه على تورط السي آي أيه في إنقلاب١٩٦٣ معتمداً إعتمادا كبيرا على أبو ريش لكنه أضاف مادة جديدة عن جيمس كرتچفيلد رئيس عمليات الشرق الأدنى في السي آي أيه أوائل الستينيات. سلط كولي الضوء على ما جاء في نعي كرتچفيلد في مقبرة أرلينغتون الوطنية بأن كرتچفيلد قد إعترف بأنه قد أوصى بأن تقدم السي آي أيه الدعم لحزب البعث في أوائل الستينيات، وبأننا “كنا نعرف، ربما قبل ستة أشهر، بأن الإنقلاب سيحدث” وقد قدم كولي تاريخاً موجزاً لسجل كرتچفيلد العسكري والمخابراتي والخطوط العامة لنشاطاته خلال الأشهر الأولى من عام ١٩٦٣.
نشر ويليام بلوم William Blum أيضاً في عام ٢٠٠٥ طبعة محدَّثة من كتابه “دولة مارقة: دليل للقوة الوحيدة في العالم Rogue State: A Guide to the World’s Only Power” والذي طبع عام ٢٠٠٠. قدم بلوم في هذا الكتاب فصلاً طويلاً يلخص فيه كل تدخلات الولايات المتحدة وتضمن مقطعاً عن العراق خلال الفترة من ١٩٥٨-١٩٦٣، حيث يضيف فيه بلوم إضافة ذات أهمية إستثنائية للتدوين التاريخي عما نقله من تقارير تتعلق بوثائق حكومية بريطانية تكشف عن دعم بريطانيا للحكومة البعثية الجديدة في عام ١٩٦٣، ويلخص كذلك محادثة كاشفة أجراها مراسل صحيفة “لوموند” مع قاسم في اوائل عام ١٩٦٣. عندما صدر كتاب “دولة مارقة” أول مرة كان بلوم قد جمع مواد وفيرة ليضمنها في إنقلاب العراق عام ١٩٦٣ ضمن قائمته بالتدخلات الأميركية.
إن هذه الدراسة والتي تتناول تدخل الولايات المتحدة الخفي في العراق خلال المراحل الأولى من تاريخه الحديث تضيف معلومات أخرى إلى العمل السابق ومعلومات مستقاة من دراسة وثائق الحكومة الأميركية نفسها تكملها سرديات التاريخ الشفاهي من لقاءات أبو ريش ومسؤولي الخارجية المتقاعدين مثل بيل ليكلاند Bill Lakeland وجيمس ايكنز James Akins والمسؤول المتقاعد في السي آي أيه ايد كين Ed Kane. ليكلاند وايكنز قد شغلا منصبي السكرتير الأول والثاني على التوالي في لدائرة السياسية لسفارة الولايات المتحدة الأميركية في بغداد خلال الفترة التي سبقت وأعقبت إنقلاب١٩٦٣. كان ايد كين آنذاك يشغل مركز رئيس مكتب العراق في مقر السي آي أيه في واشنطن. ربما هناك المزيد من المطبوعات عن هذا الموضوع ستظهر في المستقبل.

[1] بعد سبعة أشهر فقط من الإنقلاب أكد ذلك حسين ملك الأردن لمحمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام. نشرت جريدة الأهرام (القاهرة) في ٢٧ أيلول ١٩٦٣ الجزم على التنسيق والتعاون من قبل المخابرات الأميركية في إنقلاب ١٩٦٣. كان ذلك التصريح رداً على الإنتقادات التي طالته بأنه هو نفسه كان عميلاً للسي آي أيه. أنظر كتاب حنا بطاطو “الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق (١٩٧٨) ص: ٩٨٥-٩٨٦.
[2] هي زوجة العراقي الدكتور لؤي يونس بحري. [المعرب]
[3] كتب لي جيمس أيكنز بأنه منهمك حالياً ومنذ سنوات بكتابة مذكراته وهو لم يقرر بعد فيما إذا كان سيضمن إنقلاب ١٩٦٣ وإن فعل ذلك فلربما سيزودنا ببعض المعلومات الإضافية الهامة، ففي مراسلة معه في حزيران ٢٠٠٥؛ في ٨ شباط ٢٠٠٥ كتب روجر موريس المؤلف وكاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز بأن إد كين “له كتاب سيصدر هذه السنة”. إنظر الملحق (٣): الوثائق: رسالة من إد كين إلى مدير العلاقات العامة في السي آي أيه ص ٩٨. خدم موريس في أركان مجلس الأمن الوطني أثناء رئاستي جونسون ونيكسون في أواخر الستينيات وهو الذي كان يستمع بإستمرار إلى ضباط السي آي أيه وبضمنهم آرچيبالد روزفلت، حفيد تيودور روزفلت وكبار موظفي السي آي أيه للشرق الأدنى وأفريقيا حينما كانوا يتحدثون علانية عن علاقاتهم الوثيقة مع البعثيين العراقيين. إنظر روبرت موريس “٤٠ عاماً في تصنيع الطاغية A Tyrant 40 years in the Making”، نيويورك تايمز ١٤ آذار ٢٠٠٣.
[4] لقد سيطر صدام على مفاصل الدولة تماماً وصار الرجل الأول في السلطة منذ تموز ١٩٧٣ وبالتحديد بعد المحاولة الإنقلابية المزعومة لمدير الأمن العام ناظم گزار. لم يتمكن البكر من ممارسة أية سلطة عليه خاصة بعد إتمام بناء جهازه السري الذي سحق بواسطته الدولة ويتكون من المقربين إليه حصراً. شهادات المسؤولين الكبار من وزراء وغيرهم إضافة إلى الحزبيين قد أكدت هذه الحقيقة. لقد تمكن صدام من تصفية جميع الحزبيين الذين لا يتفقون مع نهجه أو الذين يعرفون أسراره، جسدياً أو إبعاداً. كانت التصفية الكبرى للحزبيين في تموز ١٩٧٩ حين أعدم خمسة من قيادة الحزب والمئات من المرتبطين بهم بعد تسلمه السلطة مباشرة وبإتهامات واهية. [المعرب]
[5] قمنا بتعريب مقال ريتشارد سيل المذكور وتم نشره وعلى الفيسبوك قبل أكثر من عام ومن ثم نشر على موقعنا بتأريخ ٢٨ ك٢-٢٠١٩. يمكن العودة إليه.

الفصل الثالث

نزول القوات الأميركية في لبنان إستجابة لطلب كميل شمعون خوفاً من تمدد ثورة العراق

رد فعل الولايات المتحدة على إنقلاب ١٩٥٨

إحتل البريطانيون عام ١٩١٧ الولايات العثمانية الثلاث والتي أصبحت فيما بعد تشكل العراق الحديث. بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى إستمرت بريطانيا في السيطرة على المنطقة وأُنتدبت أخيراً لحكم العراق كإقليم نشأ نتيجة اتفاقية سايكس- پيكو عام ١٩١٦ والتي قسمت الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ بين البريطانيين والفرنسيين. فقدت بريطانيا في عام ١٩٢٠ (٤٥٠) جنديا فقط في حين قتلت (١٠٫٠٠٠) عراقياً مستخدمة غاز الخردل في قمع الثورة ضدها. قام البريطانيون على عجل بإقامة نظام ملكي من إختيارهم ونصبوا فيصلاً ملكاً. بدأت بريطانيا عام ١٩٢٢ بإصدار سلسلة من المعاهدات ثم منحت العراق تدريجياً إستقلالاً شكلياً في عام ١٩٣٢ لكنها سمحت لبريطانيا حق إقامة قواعد عسكرية و”الدفاع” عن العراق والعديد من الإمتيازات الأخرى. خلال فترة الإنتداب تمكنت بريطانيا في عام ١٩٢٥ من إنتزاع امتياز نفطي من فيصل أمده (٧٥) عاماً والذي تحول فيما بعد إلى “شركة نفط العراق”.
‏توفي فيصل عام ١٩٣٣ وورثه نجله غازي ذو الـ (٢١) عاماً والذي حكم خلال سنوات (١٩٣٣-١٩٣٩). رغم ان غازي، المناوئ للبريطانيين، كان ملكاً إلا ان الحقيقة فأن العراق أثناء الثلاثينيات العراق كانت تحكمه حلقة ضيقة من خريجي كلية الحرب في إسطنبول برزوا على الساحة من خلال دعمهم لرعاتهم البريطانيين. قام عراقيون مناهضون للغرب بإنقلاب عام ١٩٣٦ جاء بالفريق بكر صدقي الى السلطة، لكن صدقي أغتيل عام ١٩٣٧وإستولى التابع البريطاني الجنرال نوري السعيد على السلطة وأصبح رئيساً للوزراء. بقي نوري السعيد يدور حوالي السلطة، مرة في قمتها أو في قربها من خلال إنقلابات عسكرية متعددة ولغاية عام ١٩٤١ عندما قام رشيد عالي الگيلاني[1] بتمرد معادي لبريطانيا. ردّ البريطانيون بإحتلال العراق عسكرياً وظلوا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. توالت بعد الحرب حكومات تابعة لبريطانيا، وكانت برئاسة الحاضر دائماً نوري السعيد حتى نهاية الخمسينيات. بدأت مجموعة من العسكريين العراقيين في عام ١٩٥٢، مستلهمين ثورة تموز في مصر، في تشكيل تنظيم خاص من “الضباط الأحرار”. كتب قائد تنظيم الضباط الأحرار الزعيم عبد الكريم قاسم في عام ١٩٥٦ رسالة الى عبد الناصر يطلب فيها غطاءً جويا لإنقلاب عسكري، لكن عبد الناصر رفض الطلب. [2]
زحف العقيد[3] عارف آمر اللواء العشرين ليلة ١٣ تموز ١٩٥٨، أي بعد عامين من ذلك الطلب، على بغداد وقد إحتل جنود اللواء المواقع الإستراتيجية داخل بغداد وضواحيها فيما طوق آخرون القصر الملكي ومسكن نوري السعيد بينما بقي الزعيم قاسم آمر اللواء التاسع عشر في معسكر المنصورية خارج بغداد[4]. حدث قتال قصير مع قوات الحرس الملكي وفي صبيحة ١٤ تموز سمع المواطنون العراقيون من راديو بغداد العقيد عارف وهو يذيع بيان النظام الجديد معلنا فيه ان الجيش قد حرر “الوطن العزيز من الطغمة الفاسدة التي نصبها الإستعمار”. ظهر قاسم وعارف في وقت لاحق من صباح ذلك اليوم على التلفزيون ليعلنا عن حكومة شعبية ويدعوان الى الحفاظ على “النظام والوحدة” ثم أعلنا بعد الظهر تشكيل الوزارة. غصت شوارع بغداد بالمسيرات والإحتفالات العفوية وبحشود معادية للغرب على نحو واضح. تعرض بعض البريطانيين والأميركيين للقتل[5]، ولكنهم كانوا قليلي العدد إزاء الغضب المكبوت على مدى أربعين عاما من نكث الوعود والسيطرة الإمپريالية.
تركز إهتمام حكومة الولايات المتحدة فجأةً على الشرق الأوسط حيث كتب مدير السي آي أيه ألن دلاس في يوم الإنقلاب بعض الملاحظات الموجزة مستنتجاً فيها أنه: “إذا نجح إنقلاب العراق، يظهر بأنه لا مناص من أنه سيخلق سلسلة ردود أفعال ستؤدي إلى نهاية الحكومات الموالية للغرب في لبنان والأردن والسعودية، وسيخلق مشاكل خطيرة لكل من تركيا وإيران“.
إن فهم سياق أحداث تلك الأيام سيساعدنا في إستيعاب حجم إنذار دلاس. كان الزعيم المصري عبد الناصر يتمتع بشعبية كاسحة في عموم المنطقة بعد نجاة نظامه من الغزو البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي المشترك عام ١٩٥٦. بلغت رؤية عبد الناصر القومية العربية أوجها في شباط ١٩٥٨ بقيام الجمهورية العربية المتحدة بتحالف سياسي بين مصر وسوريا. كانت المشاعر القومية العربية قوية في لبنان والأردن والسعودية وكذلك في العراق. مر لبنان خاصة في فترة من إنعدام الإستقرار والتمرد ضد الحكومة الموالية للغرب فقد رحل آخر الجنود الفرنسيين من لبنان عام ١٩٤٦ ولكن نظامه البرلماني الطائفي كان مآله الصدام، حين لجأ القوميون العرب المسلمون إلى شن حرب أهلية نتيجة للسياسات الخلافية للرئيس المسيحي كميل شمعون.
كانت الناصرية تمثل تهديداً للحكومة الأميركية بسبب مقاومة عبد الناصر التعاون معها في الحرب الباردة وبعد رفضه الإنضمام الى حلف بغداد والذي شن ضده حملة إعلامية شعواء وكذلك مشاركته بنشاط في مؤتمر باندونج لعدم الانحياز عام ١٩٥٥. قام عبد الناصر في العام نفسه أيضاً، بشراء السلاح من الإتحاد السوڤيتي بعدما رفضت الولايات المتحدة تزويده به. لجأ عبد الناصر الى تمويل السوڤييت وخبرائهم بعدما سحبت الولايات المتحدة دعمها لمشروع سد أسوان. كان مراقبون أميركيون، حسنو الإطلاع، يعرفون أن القومية العربية هي ليست الشيوعية وأن عبد الناصر كان يستثمر الصراع بين القوتين العظميين لمصلحته إلا أن بعض أحاديث ناصر وسياساته كانت إيحاءاتها إشتراكية وهذا بكل تأكيد قد سبب قلقاً لألن دلاس وشقيقه صاحب النفوذ وزير الخارجية جون فوستر دلاس. جون دلاس وشقيقه كانا يشتركان في نظرتهما الدينية إلى الحرب الباردة بإعتبارها جزءاً من “الصراع المتواصل بين الخير والشر… الصراع الذي ليس له حدود؛ مكانياً أو زمانياً” ولم يكن الحياد خياراً وارداً في تفكيرهما مما إعتبرا أن الأمة الغير المنحازة، بوعي أو بغير وعي، هي ليست سوى بيدق عديم الأخلاق.
قدم وزير الخارجية جون دلاس موجزاً لرؤيته أمام أعضاء الكونغرس في البيت الأبيض في ١٤ تموز ١٩٥٨، والذي جادل فيها بأن “الإتحاد السوڤييتي” كان بدون أدنى شك هو وراء العملية برمتها في لبنان”. يبدو واضحاً بان أيزنهاور قد اقتنع بذلك وترك موقفه المتردد في هذا الإجتماع الى إبلاغ بعض قادة الجيش في اليوم التالي بأن عبد الناصر هو “دمية، رغم انه ربما لا يعتقد ذلك”. وصف ألن دلاس في الإجتماع الوضع في لبنان ناقلاً طلب شمعون العاجل “لتتدخل الولايات المتحدة عسكريا في لبنان خلال (٤٨) ساعة وإنه سيفسر نوايانا وفق تعهداتنا. إنه يطلب الأسطول السادس هنا في غضون ٤٨ ساعة وإلا فانه سيعرف أخيراً أين يقف مما يتعلق بضمانات الغرب”. يمضي التقرير متناولاً جميع الشعوب الكبيرة الأخرى في المنطقة فكان عن السعودية فاضحاً ومحرجاً ولم يفرج عنه حتى عام ١٩٧٩. أفصح هذا الجزء طلب الملك سعود: “يجب إرسال قوات أميركية وبريطانية الى العراق والأردن وإلاّ فإن “السعودية ستنضم إلى السياسة الخارجية للجمهورية العربية المتحدة”.
أُنزل الأُسطول السادس في اليوم التالي على إنقلاب العراق، أي في ‏١٥ تموز، قواتاً في لبنان بطلب من شمعون وفي ١٦ تموز توجه البريطانيون صوب الأردن. كان من السهل على خلفية الأحداث أن نرى لماذا إتخذت إدارة أيزنهاور قرارها بإحتلال لبنان. لقد كان ذلك شكلاً من أشكال الرد على إنقلاب العراق ومحاولة لخلق عامل إستقرار وتنفيذ بديل مؤقت في مكان يلقون فيه الترحيب دون الإقدام على غزو العراق حيث لا ترحيب ينتظرهم. بدأ مجلس الأمن القومي مناقشة إمكانية غزو العراق في اليوم الذي نفذ فيه الضباط الأحرار إنقلابهم وظل القسم المتعلق بالغزو في موجز ورقة دلاس سرياً لمدة ٢١ عاماً. أعدت هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأميركية في وقت لاحق من عام ١٩٥٨مشروع خطة سرية للغاية لكيفية غزو العراق عبر تركيا بإسم رمزي “عملية كاننبون” Operation Cannonbone. لا شك أن ذلك كان من باب التخطيط للحالات الطارئة فرضته ضرورة إستمرار النقاش في أواخر ١٩٥٨وأوائل ١٩٥٩ حول إمكانية الحاجة الى الغزو. إحتوت الأجزاء الأخرى من ورقة دلاس والتي بقيت سرية لفترة طويلة جملاً أو فقرات تسمي مصادر معلومات السي آي أيه ويتيح ذلك لنا إلقاء نظرة فاحصة على مصادر محطة الوكالة الموجودة في بغداد وقت وقوع الإنقلاب. كان لهم في بغداد من بين هذه المصادر المهمة “موظف أميركي يعمل في قطاع النفط” له صلة حميمة بالحكومة العراقية وقد كتب “إن نيران المدافع الرشاشة والهاون موجهة صوب القصر، وأن أربع دبابات وحشداً من المدنيين يقتربون من دار نوري السعيد” كما كان لهم تنسيق واسع مع المخابرات البريطانية والتي كان لها قواعد منتشرة في العراق. إثر قيام حكومة قاسم كثّفت محطة السي آي أيه في بغداد من نشاطاتها بعد أن تحول العراق من حكومة موالية للغرب الى نظام يبدو على أنه نظام ثوري.
يمكننا التعرف على النشاط الـذي قامت به السي آي أيه في هذا البلد أو ذاك في أواخر الخمسينيات وعقد الستينيات من خلال كتاب فيليب أيجي Phillip Agee “داخل الشركة: يوميات الـ “سي آي أيه Inside the Company: CIA Diary”‏[6]، وفي كتاب بركهولدر سميث “صورة مقاتل بارد” Joseph Burkholder Smith’s Portrait of a Cold Warrior. كانت الإجراءات النمطية هي أن تخفي السي آي أيه هوية عناصرها بغطاء وظائف عسكرية أو وظائف في السفارات أو في غيرها من الوكالات والشركات التجارية الأميركية. يقوم المتخصصون بتجنيد عملاء عادة من مواطني البلد والذين يبدون تعاطفاً مع الولايات المتحدة أو معجبون بالمثل الغربية. يُدفع لهؤلاء في أغلب الأحيان حق أتعابهم عما يقدمونه من معلومات أو ينفذونه من عمليات بعد تمحيص شامل لخلفياتهم ويتم أحياناً حتى إخضاعهم للإختبار على جهاز كشف الكذب. كانت أكثر الطرق شيوعا لكسب العملاء من خلال الزيارات التي يقوم بها بعض الأشخاص إلى موظفي السفارة أو إلى أحد المواطنين الأميركيين عارضين المساعدة أو مقترحاً للتحالف فيتم تحويل الشخص إلى السي آي أيه للعمل في البلد الذي من الممكن أن يصبح فيه مصدراً للمعلومات. كان على السي آي أيه بعد الإنقلاب أن تبدأ هذه العملية من الصفر في العراق.
وزير الخارجية دلاس إعترف عام ١٩٥٨ ” بعد سقوط حكومة السعيد فأن الولايات المتحدة لم يبق لها سوى القليل نسبياً من مصادر المعلومات في العراق“. خسرت أميركا العديد من مصادرها بسقوط النظام القديم ورحل رجل النفط الأميركي ومثلها فقد خسرت الإستخبارات البريطانية قواعدها الواسعة. كان من شأن هذه الخسائر ان تستعجل الحاجة لإيجاد مصادر جديدة فوفقاً لأبي ريش ففي الأيام الأولى التي أعقبت الإنقلاب فأن السي آي أيه قد باشرت بالتعاون مع حسين ملك الأردن ومع شاه إيران ومخابراتهما في محاولة إيجاد وسيلة لإسقاط قاسم[7].كان عبد الناصر في زيارة لصديقه الزعيم اليوغسلافي تيتو في يوم الإنقلاب حينها قرر عبد الناصر وضع قوات ج.ع.م في حالة تأهب قصوى وأمر قواته الخاصة ووحدات من سلاح الجو بالتموضع على الحدود السورية-العراقية وقد إعترف عبد الناصر بالحكومة الجديدة معلناً أن أي إعتداء على العراق هو بمثابة إعتداء على ج.ع.م وذلك بموجب معاهدة الدفاع العربي المشترك. أشار تيتو حينها على عبد الناصر بالطيران سراً الى الإتحاد السوڤييتي لعقد إجتماع طارئ مع الزعيم السوڤييتي خروتشوف لكن السوڤييت لم يعطوا إشارة واضحة عن موقفهم. إن الصور التي رفعت في شوارع بغداد لم تكن لقاسم، الغير معروف، وإنما كانت صور عبد الناصر وكان العالم بأسره يتوقع أن يطير عبد الناصر مباشرة من موسكو إلى بغداد ولكن قاسم لم يسمح له بالهبوط وإضطر للتوجه الى دمشق. وصف قاسم زيارة عبد الناصر بأنها “في غير وقتها” ومن الأسباب التي دفعت قاسم لرفض زيارته هو رفض عبد الناصر مد يد العون للضباط الأحرار العراقيين عام ١٩٥٦، الأمر الذي دفع قاسم إلى الإستقلال عن مصر عبد الناصر حتى وإن بدا أن الإثنين يحملان نفس الأفكار[8]. إن إحتشاد الأحداث التي وقعت في تلك الأيام الثلاثة قد إجتمعت كلها كي تنزع فتيل الأزمة حيث إنتفت الحاجة لقيام الولايات المتحدة بغزو العراق لأن السوڤييت لم يتدخلوا بنشاط وأن قاسم لم يوقف تدفق النفط أو أنه قد تحرك ليتوحد مع الـ ج.ع.م. إبتدأت الحكومة العراقية الجديدة بمبادرات ودية تُجاه الدبلوماسيين الأميركيين وكذلك أبرزت إهتمامها بالإحتفاظ بفنيي صناعة النفط الأميركيين. إعترفت الولايات المتحدة في ٣٠ تموز بالحكومة العراقية وهكذا قد إنتهت أزمة البداية.

[1] ذكر المؤلف بأن رشيد عالي الگيلاني كان جنرالاً والگيلاني سياسي مدني ولكنه تحالف مع العقداء الأربعة للقيام بحركة مايس ١٩٤١. [المعرب]
 [2] وردت هذه المعلومة كما يشير الكاتب في مذكرات عبد اللطيف البغدادي (١٩٨٢) وكما نقلها سعيد أبو ريش في كتابه “آخر العرب-٢٠٠٤”. لم تذكر هذه المعلومة في أي مرجع يعتد به فمن المستبعد أن قاسم كان قد طلب غطاءاً جوياً من ناصر عام ١٩٥٦ لأن قاسم كان حريصاً بشكل إستثنائي على سرية التنظيم وتحركه حتى يوم ١٤ تموز ولو كان هذا هو السبب حقاً فمن الصعب أن يحتفظ عبد الناصر بكل تلك الشعبية وتأييد القوى القومية، المدنية والعسكرية له إلى الدرجة التي كانوا فيها مستعدين لتسليمه حكم العراق دون جدال. كماأن هذه المعلومة، إن صحت، تؤكد على أن قائد التنظيم كان هو قاسم وليس كما حاول الإعلام المصري طيلة تلك الفترة الإدعاء بأن عارف هو قائد الثورة وأن قاسم كان مجرد دخيل وأنه سرق الثورة من رفيقه عارف! إن كانت تلك هي حقيقة الأحداث فأن موقف الزعيم قاسم كان على حق علماً بأن عبد الناصر لم يحاول الإتصال به بعد الثورة بإعتباره قائدها بل بدأ بتحشيد الأشخاص المؤيدين له حصراً وعلى رأسهم عبد السلام عارف منذ الأيام الأولى. أغلب الظن، رغم هذه الرواية، أن عدم موافقة قاسم على زيارة ناصر في تلك الأيام الهائجة قد يكون لأسباب عديدة منها أولاً شعبية ناصر في الشارع العراقي والذي قد تؤثر على شعبية قادة الثورة الحقيقيين وربما يكون السبب الثاني، وهو تفسير شخصي للحدث وهو الأهم، هو تحفظ قاسم من ألاّ يفهم العالم، وخاصة الغربي المتربص بالثورة، بأن هناك تبعية للثورة لقوى خارجية وخاصة للنظام المصري، فهي ثورة وطنية قلباً وقالباً، تخطيطاً وتنفيذاً. [المعرب]
[3] ذكر المؤلف بأن رتبة عارف هي جنرال فتم تصحيحه. [المعرب]
[4] تحرك اللواء العشرين بقيادة عارف من موقعه في جلولاء والذي يبعد حوالي ١٧٥ كم عن بغداد ثم تبعه من جانب آخر اللواء التاسع عشر بقيادة قاسم من معسكر منصورية الجبل والذي يبعد عن بغداد حوالي ٩٧ كم وذلك وفق الأوامر العسكرية الصادرة إلى اللوائين من رئاسة الأركان فإستغل القائدان فرق التوقيت في التحرك ليكون اللواء الـ ١٩ ظهيراً في حالة أية طارئ ولكن مقاومة النظام الملكي إنهارت في الساعات الأولى ويذكر بأن قائد الحرس الملكي كان متعاطفاً مع الثوار فلم يقاوم. يذكر المؤلف بأن قاسم قد ظهر مع عارف على التلڤزيون في صباح ذلك اليوم أي أن فرق توقيت الوصول إلى بغداد كان قصيراً إستدعته الخطة. ظل الإعلام المعادي لقاسم وخاصة عبد الناصر ترديد مزاعم باطلة بأن قائد الثورة الحقيقي هو عارف وقد سرقها منه قاسم. منطق بليد كان عارف يردده أيضاً خاصة بأن صاحب هتاف “ماكو زعيم إلا كريم” هو عارف نفسه وظهر الزعيم في اليوم الثاني للثورة في مؤتمر صحفي بإعتباره قائد الثورة. لقد أثبتت الأحداث سوء قيادة عارف مما حدا بالقوى القومية نفسها الإنقلاب عليه عسكرياً لإزاحته من السلطة عام ١٩٦٥ بقيادة رئيس وزرائه عارف عبد الرزاق وبالتواطئ مع عبد الناصر فلجأ الإنقلابيون إلى مصر بعد فشل محاولتهم وعادت نفس الزمرة محاولة إزاحة عبد الرحمن عارف في ٣٠ حزيران يونيو ١٩٦٦ وفشلت أيضاً وهربت. [المعرب]
[5] القتيل البريطاني الوحيد هي سيدة كانت بمنصب الملحق العسكري البريطاني في السفارة. روى شهود عيان حينها أنها قد أطلقت الرصاص حين إقتربت الجموع من السفارة البريطانية فرد عليها وأرديت قتيلة. إقتلعت الجموع الثائرة تمثال القائد مود في الميدان المقابل للسفارة في منطقة الكريمات بإعتباره رمزاً للإحتلال البريطاني، كذلك إقتلعت الجموع تمثال الملك فيصل الأول في الصالحية. أعاد صدام تمثال فيصل إلى مكانه أثناء الحرب العراقية الإيرانية تكريماً للملك حسين الذي آزره في تلك الحرب، كما قُتل بعض الرعايا الأردنيين منهم وزراء في الإتحاد الهاشمي والذين كانوا متواجدين في بغداد من قبل بعض الجموع غير المنضبطة. [المعرب]
[6] فيليب بيرنيت فرانكلين أيجي Philip Burnett Franklin Agee (١٩ تموز ١٩٣٥- ٧ ك٢ ٢٠٠٨)، كان أحد ضباط السي آي أيه والذي اشتهر بمؤلفه “داخل الشركة”. وقد التحق أيجي بالوكالة عام ١٩٥٧ وعمل في العديد من الدول. وبعد استقالته من الوكالة تحول إلى معارض شديد لنشاطها. وتوفي في كوبا عام ٢٠٠٨. [المعرب]
[7] إستمر هذا التعاون حتى جاءت الأوامر بإيقافه في أواخر ١٩٦٢ وهذه المعلومات هي بناءً على مقابلات في أعوام ١٩٦٩ و١٩٨٢ مع رئيس المخابرات الأردنية راضي عبد الله، أنظر أبو ريش “صداقة وحشية Brutal Friendship ص١٤٠”. كان الشاه دمية أميركية أعيد إلى عرشه من قبل السي آي أيه عام ١٩٥٣؛ أنظر م. جيه. گازيورويسكي، “إنقلاب ١٩٥٣” في “الصحيفة الدولية للشرق لدراسات الشرق الأوسط ١٩ رقم ٣ (١٩٨٧) ص ٢٦١-٢٨٦. الملك حسين مدين بعرشه إلى بريطانيا الإمپريالية وكان أجيراً للسي آي أيه منذ عام ١٩٥٧ ولغاية مماته في عام ١٩٩٩ أنظر بلوم، قتل الأمل،٩٠، أنظر أيضاً، الكيد Boomerang!! زيپيزاوير، ٦٠-٦٦.
[8] أنظر ملاحظتنا السابقة عن هذا الموضوع.

الفصل الرابع

Iraqi children wave communist flags during an outdoor gathering, organised by the Iraqi Communist Party, honouring the 50th anniversary of the 1958 Iraqi revolution, in Baghdad on July 14, 2008. The late General Abdel Karim Qassem (1914-1963), admired by many Iraqis, installed Iraq’s first republic government in the aftermath of the July 14, 1958 revolution, where he seized power against the ruling monarchy in a coup d’etat with the Iraqi army and became the country’s prime minister. He was overthrown by a Baathist-led coup in February 8, 1963 and executed the following day. AFP PHOTO / ALI YUSSEF (Photo credit should read ALI YUSSEF/AFP/Getty Images)

فتية عراقيون في بغداد يلوحون بالأعلام الشيوعية أثناء تجمع منظم للحزب الشيوعي العراقي إحتفالاً باليوبيل الذهبي لثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ وبصور الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.

قلق متزايد من الشيوعية في العراق

شهد الشهران الأولان تصعيد النظام الجديد لخطاباته المناهضة للإمپريالية والمعادية للولايات المتحدة معبراً في الوقت نفسه عن رغبته في إدامة العلاقات مع الولايات المتحدة. إنشغلت الحكومة العراقية حينها بخلافات داخلية بين طرف يطالب بالوحدة الإندماجية مع ج.ع.م، يقوده عارف، وطرف يدعو إلى نهج أكثر إستقلالية يقوده قاسم[1]. تم إبعاد عارف في خريف ١٩٥٨ وتم تعيينه سفيراً في المانيا الغربية وخلال هذه الإحتقانات كانت أجهزة قاسم تنقل تقارير عن دسائس عديدة تُحاك ضد حكمه، بمشاركة الأميركيين أحيانا، ربما كانت أجهزة مخابرات قاسم قد رصدت فعلاً وجود تعاون أميركي خفي مع إيران أو أنها قد وقعت ضحية شائعات معادية للولايات المتحدة فوفق ملفات تخص الولايات المتحدة مؤرخة في ١١ ت١/١٩٥٩، قال وزير خارجية العراق عبد الجبار الجومرد آنئذٍ بأنهم “علموا” بوجود أعداد كبيرة من العملاء الأميركيين متوجهين الى إيران وأماكن أخرى في المنطقة للعمل على تنفيذ ثورة مضادة في العراق. إن تقارير تلك النشاطات قد أعطت الدليل عن حقيقة ان الولايات المتحدة قد “تأخرت كثيرا” في الإعتراف بالنظام وبالإشتراك مع البريطانيين قد دفعتا بقوات الى المنطقة. شعرت السلطات العراقية انه بات من الضروري إتخاذ خطوات حمائية حازمة ضد أعمال معادية محتملة”. يواصل الجومرد ليعدد تلك الإجراءات ثم يختم كلامه مؤكداً: “معظم الصعوبات من هذا النوع قد إنتهت، وان رغبة الحكومة كانت مع اعادة العلاقات الطيبة مع الولايات المتحدة ومع ممثليها بأسرع وقت ممكن”. إنتبهت السي آي أيه في ت١/ ١٩٥٨ ايضا انه بالإمكان إستخدام الكرد كأداة لتقويض الحكومة العراقية وليس من قبلهم مباشرة كما فعلوا في سنوات لاحقة وذلك خوفاً من تدخل سوڤيتي في كردستان. أعرب مدير الـ “سي آي أيه” ألن دلاس عن قلقه في مذكرة نقاشية (مازالت سرية لحد الآن) تتعلق بالإجتماع المرقم (٣٨٣) لمجلس الأمن القومي في ١٦ تشرين١ من “إمكانية تحرك إنفصالي من قبل السكان الكرد في العراق. أشار السيد دلاس الى ان هذا الإحتمال يثير القلق لدى السي آي أيه بدرجة كبيرة وذلك لأن الإتحاد السوڤييتي سيجد سهولة في السيطرة على دولة كردية مستقلة تتألف من إجزاء في العراق وإيران وتركيا، وربما في الإتحاد السوڤييتي نفسه”. تبنت السي آي أيه نفسها هذه الإستراتيجية أخيراً في أوائل السبعينيات بالتعاون مع جهاز المخابرات الشاهنشاهي “الساڤاك”[2]. إتهمت الحكومة العراقية مراراً في الأسابيع القليلة التي تلت الثورة الولايات المتحدة بالعمل على تقويضها ولكنها لم تسمع إلا نفياً متواصلاً من الدبلوماسيين الأميركيين. لم يكن من المرجح أن الأميركيين أنفسهم قد بدأوا فعلاً بممارسة اية نشاطات خفية حينذاك ولكن الإيرانيين والأتراك شرعوا فعلا في تدبير الدسائس[3] وبرأي العراقيين فأن الولايات المتحدة تتحمَّل المسؤولية لأن هذين البلدين كانا معروفين بتبعيتهما للولايات المتحدة[4]. أغلق العراقيون أغلبية المرافق الأميركية في هذا الوقت بما فيها خدمة الإستعلامات الأميركية ومجموعة الإستشارة والمعونة العسكرية والقنصليات، كما أخضعوا السفارة الأميركية الى تفتيش وتحقيقات أمنية متكررة مما جعل تحركات الأفراد الأميركيين مستحيلة. بات من الواضح بالنسبة للعراقيين أن يفعلوا ذلك لأنهم على علم بأن كل هذه الوكالات معروفة جيداً كونها الأماكن التي تتخفى فيها عناصر السي آي أيه ولديهم تقاريراً عديدة عن أميركيين يتدخلون في شؤون العراق. إن تلك الإجراءات، ولا شك، قد جعلت من عمليات الوكالة غائبة فعلياً، حتى أن الحصول على المعلومات الإستخبارية صار محدوداً جداً نتيجة لهذه القيود. إزداد إعتماد قاسم خلال ما تبقى من شهري تشرين١ وتشرين٢ على الشيوعيين خلال قمعه للقوميين العرب. أثار هذا الوضع قلق صانعي السياسة الأميركيين فدونوا حينها الكثير عن مخاطر إستيلاء الشيوعيين على العراق.
نقلت السفارة الأميركية في بغداد في ٤ ك١ ١٩٥٨ الى واشنطن تقريراً عن طلب تمويل تقدم به قائد مجموعة من المتآمرين المعادين للشيوعية. ما زال إسم ذلك الشخص سراً وقد جاء الرد عليه بـ “أنه ليس من المناسب ولا من المرغوب فيه ان تقوم قوة خارجية كالولايات المتحدة بالتدخل في شؤون العراق الداخلية”. كان ذلك الطلب على الأرجح مقدم من قبل المتآمرين القوميين الذين كانوا يخططون علناً لإنقلاب مدعوم من ج.ع.م بقيادة رشيد عالي الگيلاني والذي كان مخططاً له أن ينفذ بعد أسبوع واحد. رفضت الولايات المتحدة العرض لأنها كانت تعتقد أن هناك “إحتمالات قوية في ان يكون ذلك هو مجرد أسلوب للإستفزاز”. كان الأميركيون على حذر مفهوم لأن البريطانيين نقلوا لهم أن قاسم أبلغ السير مايكل رايت من وزارة الخارجية البريطانية بأن “لديه معرفة مطلقة بأن الأميركيين قد رتبوا قبل فترة قصيرة جداً رحلة لثلاثة أشخاص من إيران للعمل هناك ضد النظام العراقي وأن هناك نشاطاً مماثلاً يقوم به جزءٌ من العملاء الأميركيون في جنوب العراق”.
باءت محاولة الإطاحة بقاسم، على أي حال، بالفشل، وفي ٨ ك١ تم الكشف عن مؤامرة الگيلاني متزامناً مع التقارير التي تحدثت عن نشاط أميركي في البداية والتي تسببت بتوجيه اللوم إلى الولايات المتحدة من قبل الصحافة والحكومة العراقية وكذلك إذاعة القاهرة. كان الگيلاني رجل دولة متمرس وقائد حركة مايس عام ١٩٤١ ضد البريطانيين. أُلقي القبض عليه مع مجموعة من المدنيين وضباط الجيش ممولة من عبد الناصر في السابع من الشهر نفسه. إخترقت أجهزة قاسم الأمنية المتآمرين في الاسابيع السابقة وقد عرفت بأن المتآمرين كانوا يخططون لإسقاط الحكومة في التاسع والعاشر من ذلك الشهر. المتآمرون كانوا قلقون من تنامي نفوذ الشيوعيين وخططوا لإقامة حكومة قومية بقيادة الگيلاني. يبدو من المرجح ان أحد أفراد تلك المجموعة هو الذي فاتح السفارة الأميركية لأنه وبعد فترة قصيرة على تلك الواقعة كانت ملفات الولايات المتحدة تفيض بالحديث عن تقارب مع عبد الناصر. كانت لدى السي آي أيه معلومات جيدة عن المؤامرة بالرغم من القيود التي كان يفرضها العراقيون على الأميركيين. المذكرة المؤرخة ١١ ك١ بشأن ما دار في الاجتماع رقم (٣٩٠) لمجلس الأمن القومي فان مدير الوكالة ألن دلاس قال “كنا نعرف الكثير عن هذه المؤامرة تحديداً”، وقد أبدى انزعاجه الشديد لأن “قاسم واذاعة القاهرة على السواء حمّلانا مسؤولية المؤامرة رغم الحقيقة بأننا قد حذرنا قاسم بطرق غير مباشرة منها”.
عُقد اجتماع بين قاسم والسفير الأميركي في العراق والدمار گولمان Waldemar J. Gallman في نفس اليوم حيث تمكن فيه والدمار من إقناع قاسم بأنه لا يعرف شيئا عن “التقارير التي تتحدث عن نشاطات أمريكية لتقويض حكومته”. كان قاسم متأكداً من تورط أميركيين ولكن ربما كان ذلك “بصفة شخصية”. قال الزعيم العراقي للسفير گولمان “ان الكرد في السليمانية يُحرَّضون ضد حكومته. كانت هناك تحركات من قبل أفراد عبر الحدود مع إيران… ووفق معلوماته فأن مواطنين أميركيين ومن جنسيات أخرى متورطون فيها”. لقد بات معروفاً على نطاق واسع تعاون السي آي أيه مع جهاز الساڤاك الإيراني. إن من الصعب التصديق بأن مخابرات قاسم كانت مخطئة على الدوم في تقاريرها المتواصلة عن تعاون الأميركيين مع الإيرانيين وتسللهم الى العراق. يؤكد عدد من الكتّاب على أن أميركا قد بدأت بتمويل الكرد في عام ١٩٦٠ وبالتالي فأنه من الجائز ان يكون دالاس والسي آي أيه قد شرعا بمساعدة الكرد حتى منذ أواخر الخمسينيات.[5]
ظهرت فطنة قاسم في حكمه على شخص گولمان عندما أدرك بأنه لا يعرف أي شيء عن ذلك كله فلو كانت هناك عمليات للسي آي أيه في العراق فأن گولمان لم يكن ليعرف بها نظراً لمستوى السرية الهائل الذي يحكم عمل الوكالة والذي غالباً ما كان يضع حتى وزارة الخارجية في عتمة تامة. كان گولمان شاهداً مُقنعاً إذن، وهذا مرجح، كان سبب قول قاسم أن نشاط الأميركيين كان “شخصياً”.
تضمنت برقية من السفارة الامريكية في مصر إلى واشنطن بتاريخ ١٢ ك١ إشارة إضافية الى أن نشاطاً اميركياً خفياً كان يجري على قدم وساق في العراق وكتب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى الآسيوي ويليام ام رونتري William M. Rountree موصياً بعدم تمديد جولته للشرق الأوسط إلى العراق، ختم رونتري برقيته مستنتجاً: “أخيراً يجب علينا أن ندرك ان النشاطات الجارية ضد الحكومة في العراق لم تنته بعد بأي حال وأن من الجائز تماماً ستكون هناك تطورات لاحقة بهذا الإتجاه في الأيام القليلة القادمة”، وعند هذه النقطة هناك سطر واحد في النص ما زال سرياً، ثم دون: “إن الوضع سيكون معقداً بدرجة يصعب التنبأ به إن حدثت هذه التطورات قبل أو خلال أو بعد وجودي هناك”. إن كشف رونتري عن “تطورات” كانت تثير قلقه قد تسلط الضوء على النشاط الخفي الذي كانت تمارسه الولايات المتحدة خلال ك١/١٩٥٨. سوف لن نعرف بالتأكيد إن كانت الولايات المتحدة تعمل في الخفاء على تقويض نظام قاسم في تلك المرحلة المبكرة إلا بعد أن تُرفع السرية بالكامل عن تلك الوثائق.
شرع المخططون الأميركيون إبتداءً في ٢٣ ك١٩٥٨/١ بالحديث بكثرة عن إمكانية التقارب مع عبد الناصر ودعمه في المحاولات المستقبلية لإسقاط قاسم وتنصيب حكومة معادية للشيوعية. توجه عبد الناصر إلى عناصرهم في القاهرة وبدا عليه انه كان يهدف الإستطلاع وخلال الشهرين التاليين تدفقت المذكرات بينهم وعُقدت الإجتماعات وعلى ما يبدو أن تفاهما ما قد تم التوصل إليه. كان الأميركيون يفضلون العمل مع عبد الناصر لأنهم كانوا “يعتقدون انه سيسعى بكل الوسائل المتاحة له من أجل القيام بحركة ثورية مضادة في العراق حتى وإن إنطوت على مخاطرة جسيمة قد تسبب الإضرار بعلاقاته مع السوڤييت وانه سيكون مستعدا لقبول نظام عراقي مستقل وقومي بصورة مؤقتة في أقل تقدير[6]“. السياسة الأميركية والتي صيغت في اوائل ١٩٥٩ كانت تهدف الى “إسداء النصح إلى أصدقائنا، لا سيما الأتراك والإيرانيين، بعدم اتخاذ خطوات إستفزازية”، و، “أن نعمل في حدود إمكانياتنا وإقامة صداقات فردية وجماعية حذرة من أجل خلق أجواء إيجابية للعلاقات الأميركية-العراقية وأن يشمل ذلك أفراداً من داخل الحكومة وخارجها”. إن هذا ما إبتدأوا العمل به بموازاة الإستمرار في تنشيط العلاقات مع ناصر.
كانت السي آي أيه على علم سلفاً بتمرد الموصل في آذار ١٩٥٩ فقد أرسل جون أيزنهاور تقريراً إلى واشنطن في ٢٨ شباط “هناك مؤشرات بأنه تقرر القيام بإنقلاب تنفذه عناصر في الجيش العراقي مدعوم من ناصر بين الثاني والخامس من آذار”. قال مدير السي آي أيه دلاس في إجتماع مجلس الأمن القومي بتأريخ ٥ آذار أن “نستلم تقاريراً بإستمرار عن مؤامرات ضد رئيس الوزراء قاسم، وسواء أكانت تلك التقارير صحيحة أم لا، فأن الوضع في العراق يتطلب إنتباهاً عن كثب من قبلنا وربما يملي علينا الإتصال بعبد الناصر لمواجهة النتائج المحتملة”. تابع السيد دلاس قائلا “يبدو إننا نواجه خياراً بين الشيوعية والناصرية وتبدو الأخيرة أنها أهون الشرّين”.
كانت نتائجٍ الإنقلاب سيئة جداً على عبد الناصر فقد بدأ العقيد عبد الوهاب الشواف آمر اللواء الخامس، المتمركز خارج الموصل، المحاولة في وقت سيء إذ كان لدى قاسم علم بالمؤامرة وقد إتخذ إجراءات واسعة لإحباطها. كانت ج.ع.م قد مدت القوميين بالعتاد وبمعدات إذاعية. أذاع الشواف في صباح يوم ٨ آذار البيان الأول معلناً عن تشكيل حكومة جديدة برئاسته ولكن لسوء حظه فأن زهاء نصف جنود حاميته فقط ظلوا موالين له عندما بث قاسم بياناً يدين فيه المتآمرين “لتعاونهم مع الأجنبي ضد مصالح البلاد…”. قُتل الشواف وفرَّ غالبية مؤيديه الكبار أو أُلقي القبض عليهم أو قُتلوا. صدرت عن الشيوعيين ردة فعل عنيفة من ضمنها إقامة محكمة ثورية إستمرت حتى نهاية آذار، رغم محاولات الحكومة حلها دون جدوى. بدأت الميليشيات الشيوعية، الجبهة الشعبية الثورية[7]، حملة إعتقالات جماعية في أنحاء البلاد طالت العناصر القومية المعروفة والمتعاطفة معها، وأُغلقت جميع الصحف غير اليسارية في بغداد. إبتدأت المحكمة العسكرية العليا الخاصة الشهيرة برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي جلساتها لمحاكمة المتآمرين حيث إمتدت لأشهر عديدة. كانت من النتائج ذات الصلة لهذه المحاكمة بروز عددٍ من البعثيين الذين حوكموا ودفعوا ببراءتهم بشكل جيد أمام الجمهور أثناء جلسات المحكمة التي كانت تبث حية على الأثير. لقد ردوا على المهداوي وأدانوا الحكومة العراقية بأنها لم تكن وفية لثورة ١٤ تموز القومية العربية. كانت تلك العملية قد صنعت من بعضهم شهداءً ومهدت المسرح لقبول عام لهم لاحقاً في ١٩٦٣.

[1]  في الحقيقة فأن القوي القومية في مجملها كانت ترفع شعارات تطالب بوحدة إندماجية فورية مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر! في الوقت الذي كانت فيه القوى الوطنية العراقية ترى أن إتحاداً فدرالياً يبدأ بخطوات وحدوية متأنية على الصعد المشتركة؛ إقتصادية، إجتماعية، عسكرية إلخ هو الأفضل نظراً للتفاوت في درجات التطور بين البلدان العربية وكذلك خصوصياتها المختلفة. لقد أثبت التاريخ صحة ذلك النهج حيث إنهارت الوحدة الإندماجية بين مصر وسوريا بعد ثلاث سنوات فقط من رفع ذلك المطلب المتسرع والذي كلف العراق مئات الآلاف من الضحايا على مدى أكثر من نصف قرن. لم تتمكن كل الأنظمة القومية التي إدعت الوحدوية والتي حكمت البلدان الثلاثة من إنجاز ذلك المطلب بل على العكس فقد زادت الخلافات والشقاقات حتى في حياة عبد الناصر نفسه وإنتهت تلك المطالب بعد رحيله عام ١٩٧٠وتحولت مصر بعدها إلى حليف إستراتيجي للولايات المتحدة ودخلت في صلح مع إسرائيل برعاية أميركية كاملة. إن القوى القومية لم تدرك أن الوحدة الفوقية، وحدة الأنظمة، لا يمكن أن تدوم إن هي فقدت مرتكزاتها التأسيسية الاقتصادية والإجتماعية. [المعرب]
[2] ساعدت السي آي أيه التمرد الكردي ضد الحكومة العراقية بـ (١٦ مليون دولار منذ ١٩٧٢ و١٩٧٥. أنظر بلوم “قتل الأمل” ٢٤٢-٢٤٤؛ جيرار چالياند “شعب بلا دولة”: الكرد وكردستان (نيويورك ١٩٩٣) ١٦٧-١٧٧؛ إدگار أوبالانس، الكفاح الكردي ١٩٢٠-١٩٩٤ (نيويورك:١٩٩٦) ص ٩٣-١٠١.
[3] تكررت الإعتداءات والتحرشات الإيرانية على شط العرب طوال تلك الفترة من أجل إنتزاع أجزاءٍ منه ولم تتمكن من ذلك على مر العهود حيث كان شط العرب بأكمله تحت السيادة العراقية حتى عام ١٩٧٥ حين حقق لهم صدام حسين للإيرانيين هدفهم وتم تقسيم سيادة شط العرب بين العراق وإيران بذريعة القضاء على التمرد الكردي، كما أنه قد تكررت حوادث إختراق الطائرات التركية الحربية للحدود الشمالية للعراق طيلة تلك الفترة. [المعرب]
[4] من الغريب بأن القوى القومية التي كانت تعمل جاهدة لإسقاط نظام قاسم قد صمتت عن كل تلك التآمرات الأجنبية التي كانت تحيكها المخابرات الغربية لإسقاطه وبالتواطئ مع توابعها في إيران وتركيا والخليج والأردن إضافة إلى الـ ج ع م دون أي حس وطني أو قومي. ليس هناك غير تفسيرين يبدوان منطقيين بخصوص موقف القوى القومية إما أنها كانت تعمل بالتناغم والتآمر مع القوى الإستعمارية أو أنها كانت مستعدة أن تضحى بإستقلال البلاد بل وحتى تدميرها من أجل مصالحها الضيقة دون الشعور بأية مسؤولية وطنية. لقد أثبتت الوقائع والتاريخ صحة التفسيرين. [المعرب]
[5] بدأ التمرد الكردي عام ١٩٦١ وقد إندلع قتال مرير بين القوات الحكومية والمتمردين الأكراد. لقد سلحت إيران الأكراد بشتى أنواع الأسلحة مما أضعف الجيش العراقي وأضعف النظام برمته وهو ما سهل الإنقلاب لاحقاً. لقد كشفت بعض الأسرار لاحقاً بأن حتى إسرائيل كانت حاضرة هناك وتقدم الدعم للمتمردين. لقد أثبتت الأحداث أنه بمجرد ما سحب الشاه دعمه عام ١٩٧٥ فقد إنهار التمرد حالاً ولكن الثمن كان غالياً حيث قدم صدام نصف شط العرب هدية للإيرانيين مقابل ذلك. [المعرب]
[6] هناك وثيقة هامة صدرت بكتيب صغير في نهاية الستينيات وبعد حرب حزيران لم يشر إليها أي من الباحثين وهي محاضر التحقيق مع الصحفي المصري مصطفى أمين والذي أتهم بالتجسس لصالح الولايات المتحدة. إعترف أمين بأنه كان حلقة الوصل بين عبد الناصر والأميركيين وكان يتصل بالأميركيين بناءً على أوامر وطلبات من عبد الناصر نفسه ومن ضمن القضايا الهامة التي كان يبحثها معهم هي كيفية تقويض وإسقاط النظام العراقي وكذلك علاقات البعث وعبد السلام عارف مع الأميركيين. رغم أن الرجل أتهم بالجاسوسية إلا أنه كان مصراً بأنه كان يتحرك بموجب أوامر وتعليمات من عبد الناصر نفسه. [المعرب]
[7]لم تكن هناك منظمة شيوعية بهذا الإسم (الجبهة الشعبية الثورية) وكما ذكرها الكاتب [People’s Revolutionary Front- PRF] ربما يقصد الكاتب “المقاومة الشعبية” وهي ليست ميليشيا خاصة بالحزب الشيوعي العراقي بل هي منظمة شبه عسكرية رسمية تشكلت بمرسوم بعيد الثورة مهمتها المشاركة في الدفاع عن الثورة بعد الإنزالين الأميركي والبريطاني في لبنان والأردن على التوالي والتهديدات المستمرة بغزو العراق ورأسها أحد ضباط الجيش العراقي وكانت تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة الزعيم قاسم. لم تستمر ردود الأفعال العنيفة تلك لبعض الشيوعيين وغيرهم، إذ توقفت بعد يومين فقط من قمع التمرد ووصول آمر حامية الموصل الجديد حسن عبود الذي أمر بإطلاق سراح المعتقلين ممن لم يشاركوا في التمرد وكذلك وصول أحد القادة الشيوعيين لمعالجة الوضع. لم تكن تلك الأحداث الدامية سياسية صِرفة كما يصورها السياسيون والقوى المعادية لقاسم والشيوعيين بل كانت فرصة للإنتقام الطبقي والقبلي والعنصري والقومي والديني بين العديد من مكونات المجتمع الموصلي الذي يتميز بالتعقيد والثارات الدفينة نتيجة لصراعات تاريخية عميقة. لقد بدأ الإنقلاب بإعدام عدد من الشيوعيين الذين إحتجزهم الشواف في الحامية بعد إعلانه عن الإنقلاب في مدينة عقرة فكانت ردة الفعل عنيفة تجاه ذلك القتل والإنتقام الذي مارسه القوميون ضد مواطنيهم. لم تتوقف أعمال الإغتيالات  ضد الشيوعين فقد إستمرت حتى يوم إنقلاب ٨ شباط فراح المئات من الضحايا. [المعرب]

الفصل الخامس

محاولة الإغتيال واتصالات السي آي أيه بالبعث

Premier Qasim vehicle after assassination attempt on October 7, 1959
سيطر القلق وبلغ مبلغه على شعور الأميركيين بعد المكسب السياسي للشيوعيين بعد أحداث الموصل وقد بدا ذلك واضحاً في إجتماع مجلس الأمن القومي في ١٢ آذار حيث قال مدير السي آي أيه ألن دلاس:
إن الوضع، عموماً، بالغ الخطورة، وتشتد هذه الخطورة هو قرب الكويت من العراق. إن عبد الناصر الآن حتى أنه ربما يفكر جدياً في تدبير إنقلاب مضاد في الكويت، في هذه النقطة فقد لفت السيد دلاس الإنتباه إلى خارطة ورسم بياني يوضح إحتياطات النفط في الشرق الأوسط. بعد إشارته إلى الإحصاءات عن الإحتمالات النفطية للحقول المختلفة فقد كرر السيد دلاس تحذيره من أننا نواجه حالة ينبغي ان تكون موضع إهتمام بالغ من جانبنا بشكل مبكر وعاجل.
بلغ نفوذ الشيوعيين في العراق ذروته في نيسان وآيار ١٩٥٩ وهذا ما أثار توجساً ليس قليلاً لدى صنّاع السياسة الأميركيين. جرت مناظرة مفتوحة حول ما إذا كان يجب غزو العراق أم لا “لإنقاذه من الشيوعية”. ناقش مجلس الأمن القومي امكانية تغيير النظام بعملية خفية كما حدث مع “مصدق” و “إيران”، في ذات الوقت ألقى ألن دلاس كلمته الملتهبة امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ولكن الغلبة كانت لأصحاب الرؤوس الباردة، حينها تقرر تقديم ما يمكن من العون لعبد الناصر لكن دون إبعاد حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كما ينبغي أيضاً كسب قاسم بإعتباره ثقلاً مضاداً للشيوعيين (رغم ان البعض كان يشك إن كان قاسم قادراً على مقاومتهم)، بعكسه فأن الولايات المتحدة تحافظ وتواصل ما يمكن تنفيذه من برامج تجارية وثقافية على أمل ان تكون هي البديل عن السوڤييت. تواصل القلق، مع ذلك، قوياً جداً من أن يكون العراق شيوعياً بحيث أن مجلس الأمن القومي قد إتخذ قراره المرقم (٢٠٦٨) بتشكيل “لجنة خاصة حول العراق” تجتمع وتقدم خطط عمل ممكنة لمعالجة هذا القلق خلال السنوات القليلة المقبلة.
حاول الحزب الشيوعي العراقي ان يستثمر إكتساحه للشارع لكن قاسم تصدى له أخيراً وقاوم ضغوطه السياسية الشديدة لتعيين المزيد من الشيوعيين في حكومته وقد إنتبه عبد الناصر لهذا الموقف وفي شهر آيار توقف هجومه الشخصي على قاسم عبر حملته الإذاعية وإقتصرت جدالاته على معاداة الشيوعية. أخذ الأميركيون أيضا علماً بذلك وإستمروا في سياسة العمل من خلال عبد الناصر وربما قد بدأوا بتمويل المخابرات المصرية سراً في هذا الوقت. يؤكد مراسل وكالة “يو بي آي” للشؤون الأمنية ريتشارد سيل ان السي آي أيه كانت تتعاون مع المخابرات المصرية قبل محاولة الإغتيال الفاشلة لقاسم في ت١/ ١٩٥٩. إن المعلومات التي أوردها سيل لم تتأكد صحتها بمصادر أخرى إلاّ أنها تنسجم مع ما كشفته وثائق رسمية بشأن التقارب مع عبد الناصر والسياسة الأميركية القائمة على مساعدة مصر سراً في مساعيها لتدمير الشيوعية في العراق. إن كانت الولايات المتحدة قد ساعدت الكرد في وقت سابق خلال عهد قاسم عن طريق الإيرانيين أو الأتراك، فأنها توقفت عن ذلك على ما يبدو بحلول حزيران ١٩٥٩. قدم نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى پاركر هارت Parker Hart تقريراً في إجتماع عقدته اللجنة الخاصة حول العراق عن المحادثات التي أجراها مع وزير الخارجية التركي زورلو ونائب رئيس “الساڤاك” الجنرال پاكلاڤان. كان الأتراك يعتبرون الكرد “عاملا ينبغي الإحتفاظ به كعنصر إحتياط وذلك لإمكانية إستخدامه إذا ما تردى الوضع في العراق”. و”كان الإيرانيون كذلك يحاولون كبح الكرد والإحتفاظ بهم كعنصر إحتياط”.
خلال مسيرة خرجت إحتفالاً بالذكرى الأولى لثورة ١٤ تموز في كركوك إندلعت أعمال عنف بين كرد ذوي ميول شيوعية وبين أفراد تركمان من الطبقة التقليدية المتنفذة وقد قُتل عددٌ كبير أغلبهم من التركمان، لقد ألهب هذا الحدث غضب الرأي العام على الشيوعيين بينما واصل قاسم حملته لفرض النظام ضد الحزب الشيوعي العراقي، ولكنه في ٢٠ ايلول نفذ حكم الإعدام بثلاثة عشر متهما من المتآمرين في تمرد الموصل مثيراً بذلك غضب القوميين العرب وكذلك أُعدم أربعة من أركان النظام الملكي مثيراً غضب الولايات المتحدة. منذ فشل الحركة الإنقلابية في الموصل في آذار خلص حزب البعث الى انه يجب إغتيال قاسم وقد نشط الحزب في منتصف ١٩٥٩ لتوسيع إتصالاته وإقامة صلات مع ضباط متعاطفين معه في الجيش وبعد الإعدامات شعر الحزب بأن الوقت قد نضج.
كانت الولايات المتحدة على معرفة بمخطط الإغتيال والمؤامرة الإنقلابية منذ يوم ٢٤ ايلول ووفق ريتشارد سيل، فان أميركا كانت أكثر من مطلعة، بل قد تعاونت السي آي أيه مع المصريين في تمويل محاولة الإغتيال وتنظيمها في ٧ ت١ ١٩٥٩. يواصل سيل روايته بالقول فأن السي آي أيه قد “أذنت” لفريق إغتيال يضم ستة من عناصر حزب البعث بينهم مساعد شاب هو صدام حسين. “أُسكن صدام في شقة في بغداد في شارع الرشيد تطل مباشرة على مقر قاسم في وزارة الدفاع العراقية ولرصد تحركاته”. كان عميل السي آي أيه المكلف بالإتصال بصدام هو طبيب أسنان عراقي يعمل لحساب المخابرات المصرية التي كانت تتعاون مع الأميركيين لإسقاط قاسم بسبب وقوفه ضد الأماني القومية للشعب العراقي في الإنضمام الى ج.ع.م. و”كان مصدر التمويل لصدام هو الرائد عبد المجيد فريد معاون الملحق العسكري في السفارة المصرية والذي كان يدفع ايجار الشقة من حسابه الشخصي”.[1]
حُدِّد يوم الإغتيال في ٧ تشرين أول، ولكن المحاولة باءت بالفشل. يتفق معظم المؤرخين على أن صدام قد إنفعل أو ربما فقد أعصابه وبدأ بإطلاق النار قبل الأوان. كان من المفترض بصدام أن يقوم بدور الإسناد فقط وألاّ يطلق الرصاصة الأولى. قُتل سائق سيارة قاسم، لكن قاسم نجا من الموت بالإنبطاح على أرضية السيارة[2]. يذكر ريتشارد سيل، فأن صدام قد فر الى تكريت بمساعدة السي آي أيه والمخابرات المصرية ثم “جاز صدام الحدود الى سوريا ومن ثم نقل الى بيروت من قبل عملاء المخابرات المصرية… وأثناء وجوده في بيروت كانت السي آي أيه تدفع إيجار شقته وأدخلته في دورة تدريبية قصيرة، ثم ساعدته للوصول الى القاهرة”.[3]
كما أشير آنفاً، فلا يوجد أحد أو وثائق تؤكد رواية سيل كما أن سيل ومصدره الوحيد المذكور عادل درويش لم يردوا على إستفساراتي. يشير سيل إلى أن تقريره الإخباري يستند إلى مقابلات مع “مجموعة من الدبلوماسيين الأميركيين السابقين والباحثين البريطانيين والمسؤولين السابقين في السي آي أيه” وبالتالي فلابد من إدراج روايته بوصفها احتمالا قائماً[4]. إن ما يقوله سيل يتطابق بالتأكيد مع ما كُشف من وثائق حكومة الولايات المتحدة حول التقارب مع عبد الناصر والبحث عن سبل مساعدته في الخفاء ولكن الى ان يفصح بعض هؤلاء الدبلوماسيين أو مسؤولي الإستخبارات عما يعرفونه علناً، فان تلك الرواية وببساطة لا يمكن إعتبارها جزءاً من السجل التاريخي.[5]
أحيا قاسم تقاربه مع الشيوعيين بعد محاولة الإغتيال لفترة وجيزة وبسبب الخوف المتزايد من وقوع محاولة إغتيال ناجحة والشك عمن سيعتلي القمة، فقد أعدت السي آي أيه خططاً “عملية” للطوارئ. إن حقيقة خطط الطوارئ تلك قد كُشفت مؤخراً في مذكرة منقحة جزئيا عن إجتماع مجلس الأمن القومي في ت٢ ١٩٥٩، إلا أننا لا يمكننا حالياً معرفة ماذا تقول بقية الأسطر المحجوبة، ربما يكون السبب في حجبها هي أنها تحكي عن خطط دعم البعث.
إنتبه الأميركيون ما لحزب البعث من نوازع عدائية واضحة ضد لشيوعيين حيث بدأوا ينظرون اليه بوصفه طريق وسط بديل بين قاسم والشيوعيين أو عبد الناصر والقوميين العرب الراديكاليين، فمن الثابت أن صدام حسين وغيره من البعثيين قد أصبحوا في تواصل مُطلع مع السي آي أيه بعد محاولة الإغتيال، في الأقل، خلال وجودهم خارج العراق في دمشق أو بيروت أو القاهرة. صرح العضو السابق في مجلس الأمن القومي الكاتب روجر موريس لوكالة رويترز مؤخراً “بأن هناك في القاهرة فقد إتصلت السي آي أيه لأول مرة (بصدام) وبالآخرين”، كما أعلم مسؤول سابق رفيع في وزارة الخارجية الأميركية للباحثين ماريون وپيتر سلوگليت، لم تُكشف هويته، بإن صدام حسين والبعثيين قد قاموا بالإتصال بالسلطات الأميركية في أواخر الخمسينات وكان يُنظر حينها الى البعث على انه “قوة المستقبل السياسية” التي تستحق دعم الولايات المتحدة ضد “قاسم والشيوعيين”. وفي ١٠ ك١/ ١٩٥٩، عندما كان رجل السي آي أيه ريتشارد بيسل يتحدث عن “طريق ثالث” في العراق ويتكلم عن إمكانية تدخل ج.ع.م، نقل إلى مجلس الأمن القومي ان “عبد الناصر كان على إتصال وثيق مع حزب البعث”. بات من المؤكد إذن أن الأميركيين بحلول ذلك الوقت كانوا على قدر معين من الإتصال بالبعث ايضا وذلك لأنهم كانوا يعملون بالتعاون مع عبد الناصر أيضاً وهذا ما إعترف به جيمس كرتچفيلد لوكالة أسوشيتد پرس بأنه قد قدم توصية الى حكومة الولايات المتحدة يطلب فيها التعاون مع حزب البعث في اوائل الستينيات.
قام ألن دلاس بإبتعاث جيمس كرتچفيلد بعد محاولة الإغتيال الفاشلة لإدارة عمليات الوكالة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا في اوائل عام ١٩٦٠ وكان العراق هو مركز الإهتمام الأول. كتب سعيد أبو ريش أن كرتچفيلد ذهب ليطبق “خبرته في الشرق الأوسط في مكافحة التغلغل الشيوعي، وقد كُلف كذلك بمهمة ثانوية وهي ضخ المهنية أكثر على الوضع”. كانت الحاجة ملحة الى سلوك “مهني”، فبعد النجاح المفاجئ والمذهل في إسقاط رئيس الوزراء الإيراني مصدق عام ١٩٥٣ قامت السي آي أيه بعد ذلك بمحاولتي إنقلاب فاشلتين في سوريا في عامي ١٩٥٦ و١٩٥٧ وخلال الفترة الواقعة بين تموز ١٩٥٧ وت١/١٩٥٨أعلنت الحكومتان المصرية والسورية ووسائل الإعلام عن كشف ما يربو على ست مؤامرات حاكتها أميركا وجهات أخرى لإسقاط احدى الحكومتين أو إغتيال ناصر. أُستُهدفت السعودية كذلك بخدعة حمقاء وقامت كذلك السي آي أيه بتزوير الإنتخابات اللبنانية بشكل سافر عام ١٩٥٧ مسببة إندلاع صدامات واسعة خلال التصويت ومشاعر عداء لا تنتهي ضد الولايات المتحدة. لم يكن مفاجئاً أن دلاس أراد أن يضفي “طابعا مهنياً” على عمليات الوكالة في الشرق الأوسط. وصف كرتچفيلد نشاطات السي آي أيه أثناء الخمسينيات بأنها “عهد رُعاة البقر Cow boy era” حيث كان العمل مكشوفاً وجنونياً[6]. كانت الحكومة العراقية على معرفة بالكثير من هذا التاريخ، لذا فكلما إزداد تآمر المعارضين داخل العراق، فأن موضع الشبهة كان دائماً الولايات المتحدة، وسبب ذلك وجيه.
العسكرية الأميركية والسي آي أيه مؤسستان تستجيبان للكونغرس وللرئيس عند الحاجة وتبعاً لذلك فانهما تعملان دائماً على إعداد خطط طوارئ مثل “عملية قائمة الفرس Operation Cannonbone” – خطة غزو العراق عن طريق تركيا. كانت السي آي أيه قد أعدت خطة خبيثة لـ ” شل قدرة قاسم جسدياً”. جاء في تقرير التحقيق الذي اجراه مجلس الشيوخ عام ١٩٧٥ عن طريق لجنة چيرچ Church Committee في هذا الشأن ما يلي:
“طلب قسم الشرق الأدنى في السي آي أيه في شباط ١٩٦٠ الموافقة على ما أسماه رئيس القسم “لجنة التعديل الصحي Health Alteration Committee “، لغرض تنفيذ “عملية خاصة” هدفها “شل” عقيد عراقي (قاسم) يُعتقد بأنه “يروج للمصالح السياسية للكتلة السوڤيتية في العراق”. سعى القسم إلى مشورة اللجنة بشأن تقنية “لا تؤدي إلى عوق كلي، بل تمنع الهدف من ممارسة نشاطاته المعتادة لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر… وبوعي فنحن لا نسعى الى إبعاد الشخص المستهدف عن المشهد بصورة دائمة، كما أننا لا نعترض إن حدثت مضاعفات.
أوصت اللجنة، في نيسان، بالإجماع وأشارت إلى “خطة العرض التفصيلي” بتنفيذ “عملية التعويق”، يلاحظ بأن مدير العمليات قد نصح بأن العملية ستكون “مرغوبة للغاية”.
العملية التي تمت الموافقة عليها كانت أن يُرسل بالبريد منديل نقشت عليه رموز بإسم الشخص المستهدف “معالج بمادة من نوع ما لغرض أزعاج الشخص الذي يلمسه”.
صرحت السي آي أيه مضيفةً في هذه التحقيق بأن المنديل “في الحقيقة لم يصل قط، هذا إن كان قد أُرسل فعلاً”. هذا التصريح قد لا يكون صحيحاً لأن سدني گوتليب Sidney Gottlieb، رئيس قسم الخدمات التقنية عام ١٩٦٠، قد وصف دوره في دعوى رُفعت ضد السي آي أيه في الثمانينيات: “كنتُ في رحلةٍ إلى خارج البلاد وأرسلته (المنديل) بالبريد من مكان ما في الشرق الأقصى”. يبدو أن هذا العمل الطائش هو من مخلفات “عهد رُعاة البقر”. الوثائق الحكومية والتي تغطي الفترة من ك٢ الى شباط مليئة بالمقاطع المحذوفة والتي مازالت سرية. رغم عدم وجود ما يكفي من معلومات متاحة للجمهور عن المخططات السرية المسموح بالإطلاع عليها والواردة في تقرير لجنة چيرچ، إلا أن الوثائق تبين “إن خطط الطوارئ لمجلس الأمن القومي المتصلة بالعراق قد جرى تحديثها والتنسيق بشأنها مع المملكة المتحدة بسرية تامة”. أخبر ليفينغستون ميرچانت في ١٤ ك٢ اللجنة: “إن الوضع في العراق اسوأ مما كان عليه قبل ستة أشهر وذلك بسبب إنحسار المد القومي وإزدياد إعتماد قاسم بشكل ملحوظ على الشيوعيين”. يبدو من الواضح من هذه الأدلة ان السي آي أيه وبحلول شباط ١٩٦٠، في أقل تقدير، كانت تسعى بنشاط الى إلحاق الأذى بقاسم، ونتيجة لذلك فليس من المستبعد ما ذهب اليه سيل من ان السي آي أيه كانت تقوم بالتمويل والتعاون مع المخابرات المصرية في محاولة الإغتيال الفاشلة التي جرت في ت١ ١٩٥٩.
مظاهرات عارمة في شارع الرشيد تأييداً للزعيم قاسم بعد فشل محاولة إغتياله في يوم ٧ تشرين أول ١٩٥٩

[1] المقصود هنا هو طبيب الأسنان حازم مصطفى البكري والذي حكم عليه بالسجن المؤبد في محكمة الشعب حيث أن المتآمرين قد إستخدموا عيادته كمركز إنطلاق لمهاجمة سيارة قاسم. [المعرب]
[2] كذلك فقد جرح مرافق قاسم الشخصي الضابط قاسم الجنابي وكذلك جرح ثمانية أشخاص من المستطرقين وفق محاضر محكمة الشعب. [المعرب]
[3] يروي هاني الفكيكي وكان من ضمن المتواجدين في بيروت حينها بأنهم أرادو أن يكرموا صداماً على مشاركته في محاولة إغتيال الزعيم قاسم وبما أنهم لا يملكون شيئاً فإقترح فؤاد الركابي بأن يتم تجاوز النظام الداخلي للحزب بمنح صدام عضوية الحزب الكاملة فوراً دون المرور في التدرج الحزبي المطلوب. تلا صدام القسم الحزبي في قبو تحت الأرض أمام ميشيل عفلق نفسه وأشاد عفلق والحاضرون بشجاعته وبطولته وإقدامه وقاموا بتهنئته على ذلك. ربما يثور السؤال هنا هو إذا كانت السي آي أيه والمخابرات المصرية هي من هربت صدام فكيف هرب الآخرون من العراق بعد فشل المحاولة ومن الذي أوصلهم إلى بيروت بهذه السرعة؟ وهم الركابي وعبد الكريم الشيخلي وخالد علي الصالح وغيرهم. تتناقض هذه الرواية كذلك مع ما قيل عن إدانة الحزب لعملية الإغتيال وما تلاها من إبعاد الركابي ومشاركوه في المحاولة عن قيادة الحزب بسبب ذلك. لقد أُتهم أحمد طه العزوز بتهريب صدام مع رفيقه فاتك الصافي عن طريق الموصل إلى سوريا. لمن سخرية القدر بأن نهايات معظم هؤلاء “الرفاق” كانت على يد صدام. [المعرب]
[4] يؤكد سيل بأن معظم الذين قابلهم طلبوا منه عدم الإفصاح عن ذواتهم عدم نسبة ما صرحوا به إليهم. يبدو أن علينا أن ننتظر طويلاً حتى ترفع السرية عن تلك الوثائق ومعرفة الحقائق. [المعرب]
[5] كشفت تحريات محكمة الشعب بأن حزب البعث قد إستلم من سفارة الـ (ج ع م) في بغداد عن طريق أحد المتورطين بمحاولة إغتيال الزعيم وهو خالد علي الصالح الدليمي مبلغ ٤٫٠٠٠ دينار أي ما يعادل ١١٫٢٠٠ دولار أميركي وكذلك فقد تبرعت السفارة بشقة مؤثثة لتكون مقراً لفرع بغداد لحزب البعث. من رسالة للسفارة الأميركية مؤرخة في ٢٩ شباط ١٩٦٠ تحت رقم (٧٧٧) عن الأحكام الصادرة بخصوص محاولة الإغتيال. (راجع رسالة السفارة الأميركية في بغداد إلى وزارتها في واشنطن والمنشورة على موقعنا). إن عبد الناصر قد ذكر أثناء مباحثات الوحدة الثلاثية آذار- نيسان/مارس-أبريل ١٩٦٣ في القاهرة علانية وكما نشرتها دار الأهرام بأنه هو من كان يمول البعث ويسلحه طوال الفترة بعد ١٩٥٩ – [المعرب]
[6] يروي أبو ريش هذه القصة المدهشة: “كان الأميركيون مصممون على الإطاحة بقاسم بحيث أنهم قد فتحوا أبوابهم لمن هب ودب. أنا نفسي كنت شاهداً على نشاطات أميركية مشابهة في بيروت، حيث أذكر وأنا مذعور وفي الطريق كيف أن شباباً عراقيين في المنفى كانوا يصرحون عن علاقاتهم بالسي آي أيه علناً وبصورة محرجة. كان هناك شخص عراقي آخر تحت لقب “الخياط” درج  على إخبار أي شخص بأن لديه رقم الهاتف المباشر لألن دلاس، يستخدمه في حالة الحاجة إليه. إكتشفت فيما بعد بأن ذلك المعتوه كان فعلاً عميلاً في السي آي أيه.” أبو ريش، صدام حسين ص ٥٥.

الفصل السادس

تدخل الولايات المتحدة الخفي قبل الإنقلاب

إنفرجت العلاقات العراقية الأميركية نسبياً إبتداءً من آذار ١٩٦٠ حينها نظرت الخارجية الأميركية بعين الرضا إلى إستمرار قاسم في تطهير الجيش من الشيوعيين ورفضه حق إجازة حزبهم، وخلال ذلك العام تنافس الفرع العلني من الحكومة الاميركية مع السوڤييت لبسط النفوذ في العراق ولكن الكتلة السوڤيتية ظلت تقدم مساعدات الى العراق أكبر بكثير مما كان يقدمه الغرب. أصبح سلوك قاسم غريباً بصورة متزايدة بعد محاولة إغتياله، حينها فقد التأييد والشعبية اللتان كان يتمتع بهما ولكنه إحتفظ بالسلطة بتوازن حساس بين القوميين والشيوعيين. حكم قاسم بشكل يكاد يكون كاملاً من خلال الجيش وضباطه الذين يدينون له بالولاء نتيجة توليهم غالبية الوزارات ومناصب الألوية وحصلوا على ترقيات مبكرة حين حلوا مكان الشيوعيين والقوميين المعزولين وكانت رواتبهم مرتفعة بفضل عائدات النفط. تحسنت علاقات الولايات المتحدة مع العراق خلال معظم عام ١٩٦٠ بصورة متوازنة وخففت الكثير من القيود المفروضة على الوكالات الأميركية وتضاءلت إتهامات العراق بشأن التدخل، وسُمح كذلك بمقادير صغيرة من المساعدة الأميركية والتبادل الثقافي. يبدو أنه الى جانب إستمرار علاقات السي آي أيه مع عراقيي المنفى في الخارج فأن التدخل الأميركي الخفي في العراق قد تباطأ إلى مجرد وشل عام [1]١٩٦٠.
بدأ حزب البعث منذ منتصف ١٩٦٠ جهوداً جدية، قادها صالح مهدي عماش، لتنظيم الحزب وتوسيعه في العراق. أقرت الحكومة الأميركية، بحلول نهاية العام، بأن حزب البعث نافس الحزب الشيوعي “من حيث القيادة والتنظيم والقدرة على تحريك الشارع”.
جاء عام ١٩٦١ بمزيد من اللامبالاة في واشنطن تجاه العراق مع إنتقال الإدارة من آيزنهاور الى كينيدي وفي الحقيقة فأن العراق إبتعد عن دائرة إهتمام السياسة الخارجية الأميركية الى يوم أحيا قاسم مطلب العراق بالكويت في ٢٥ حزيران١٩٦١[2]، ففي الأول من تموز قام البريطانيون بإحتلال الكويت ولم يرحلوا عنها حتى ٢٩ أيلول، وفي ١٨ كانون أول دق مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا فيليبس تالبوت ناقوس الخطر من جديد حول العراق:
“… منذ…الكويت …فأن العراق يقترب بصورة متزايدة من الكتلة السوڤيتية… وحتى وقت قريب فقد زادت الحكومة العراقية تدريجياً من إجراءاتها القمعية ضد الشيوعيين المحليين إلى الحد الذي بتنا نعتقد فيه ان قدرة الشيوعيين على تهديد أمن الدولة العراقية قد حُيِّدت. لكننا الآن نعتقد إن مرحلة جديدة قد بدأت… فالحكومة العراقية اتخذت خلال الإسبوعين المنصرمين خطوات متعددة تبدو أنها تتيح للشيوعيين المحليين أن يقووا مواقعهم في الداخل إلى حد بعيد. إتخذ العراق خطوة إضافية جذرية كذلك وهي مصادرة كل الأراضي المشمولة بإمتياز شركة نفط العراق (وشركاتها التابعة) بإستثناء الحقول المنتجة حالياً[3].
نتيجة للفعل العراقي ضد شركة نفط العراق، نرى أنه من الممكن إستعجال وزارة الخارجية للقيام برد إنتقامي وممارسة ضغوط أخرى على العراق. وعلى الغرار نفسه فبما أن الشيوعيين العراقيين يستعيدون دوراً مهماً لهم في العراق، يبدو انه يهدد إستقلاله، فمن المرجح ان ذلك سيولد شعوراً قوياً داخل الولايات المتحدة بأن علينا أن نتدخل في الشؤون العراقية”.
تجلى “الشعور القوي” من قبل أحد كوادر مجلس الأمن القومي وهو روبرت كومر Robert Komer في مذكرة رفعها بعد أحد عشر يوماً، إلا أن القسم المهم في فقرتين تعرضان معلومات وخطط عمل السي آي أيه، مازال مصنفاً سرياً، أما ما تلا ذلك فهو:
“رغم كل ذلك كنا مسترخين على إعتبار أن شركة نفط العراق والكويت وحتى العراق نفسه هم أطفال بريطانيا ناسين أننا نمتلك نسبة (٢٣.٧٥٪) في شركة نفط العراق (مملوكة لستاندارد أويل اوف نيو جرسي وسوكوني موبل)، وتمتلك شركة غلف (٥٠٪) من شركة نفط الكويت. إن ما يحدث في العراق سيؤثر تأثيرا مباشرا على الأحداث في سوريا وإيران، ناهيك عن الأردن ومصر والسعودية. حاول البريطانيون في البداية التعامل مع قاسم، ولكني على يقين الآن بأنهم قد تحرروا من وهمهم نتيجة لتقلباته المتطرفة”.
كان كومر، وعلى غرار دالاس، يعرف الكثير عن نفط العراق فبعد شهر واحد فقط أوضحت المخابرات القومية التقديرية بأنهم لا يستطيعون “أن يحددوا أي من الأفراد أو المجموعات التي من المرجح ان تنجح بالقيام بإنقلاب” وبحلول آيار ١٩٦٢ كان حزب البعث هو الجهة الوحيدة الذي تتداولها وزارة الخارجية بشأن إمكانية إسقاط قاسم وأوصت بدورها بالإعتراف بحكومته “ما أن يبسط الحزب سيطرته الكاملة فعلاً”. كتب كومر في ٤ حزيران الى تالبوت في وزارة الخارجية مقترحاً بأن تراجع وزارته سياسة “لننتظر ونرى” تجاه العراق، مضيفاً: “ولكن لم لا نراجع، في الأقل، سبلاً أخرى لربما من خلالها يكون تأثيرنا فيها أكثر ايجابية في الأحداث؟ هل لدى السي آي أيه أية أفكار؟ وماذا عن التحدث ثانية مع البريطانيين؟ قد يكون من المفيد حقاً الإطلاع على وجهة نظر الـ ج.ع.م”.
وفقاً لأبي ريش، أدى الإنهيار المفاجئ للجمهورية العربية المتحدة عام ١٩٦١ الى تخفيف القلق من التعاون مع المخابرات المصرية حينها عرض الأميركيون في نفس العام على عبد الناصر خطة لإسقاط قاسم بإنقلاب بعثي، وقد أبدى عبد الناصر موافقته على الخطة. “ومنذ عام ١٩٦١ وحتى الإطاحة بقاسم في شباط ١٩٦٣، كان قسم العراق في المخابرات المصرية قد سهل إتصالات السي آي أيه باللاجئين العراقيين في القاهرة وقد عمل الأميركيون على تعزيز هذه الإتصالات بإقامة صلات بين محطات الوكالة في بيروت ودمشق وضباط شرطة العهد الملكي من العراقيين وعناصر لبنانية وسورية مسيحية من القوميين العرب ومن حزب البعث المناوئ لقاسم”. يقول حسين ملك الأردن أن “لقاءات كثيرة عُقدت بين حزب البعث والسي آي أيه، وأكثرها أهمية قد عُقدت في الكويت”.
كان صدام حسين واحداً من الذين كان لهم إتصال بالسي آي أيه في القاهرة حين لجأ اليها في شباط ١٩٦٠ وكما ذكر سيل، فان صدام قد “أُسكن في شقة بحي الدقي الراقي، وكان يمضي معظم أوقاته بلعب الدومينو في مقهى إنديانا، حيث تراقبه معاً السي آي أيه والمخابرات المصرية العاملة… ولكن كان صدام خلال هذه الفترة دائم الزيارة للسفارة الاميركية حيث كان يقيم خبراء السي آي أيه أمثال مايلز كوپلاند ورئيس المحطة جيم ايكلبرغر وهم يعرفون صدام، حتى ان الامريكيين المسؤولون عن الإتصال بصدام قد حثوا المصريين الى زيادة مخصصاته الشهرية”[4]. سواء أكان هذا حقيقة أم لا، فان كتّاباً آخرين ينقلون أن صدام كان على إتصال بالأميركيين، وأن هذا مثبت. كانت المباحث المصرية تراقب صدام عن كثب وبإستمرار كانت تفتش شقته وقد إعتقلته ذات مرة[5]. كان المصريون وعلى الرغم من تعاونهم مع السي آي أيه ينظرون الى الأميركيين بريبة شديدة ايضاً، وبالنتيجة الى اللاجئين البعثيين الذين كان الأميركيون يزورونهم. اللاجئون العراقيون لم يكونوا عنصراً مركزياً في المخططات الرامية الى إسقاط قاسم بالرغم من كل الإتصالات التي اجرتها السي آي أيه معهم.

[1] وفقاً لهاني الفكيكي، المسؤول السابق في حكومة البعث، بدأ الأميركيون والبريطانيون في فترة ما من عام ١٩٦٠ أو ١٩٦١، بتسليح الكرد للقيام بتمردهم الذي إندلع في صيف ١٩٦١. انظر المقابلة مع هاني الفكيكي في لندن، ت١/١٩٩٥، في كتاب أبو ريش “صداقة متوحشة” ص ١٤١, انظر ايضا: كلوديا رايت: إجتماع الجنرالات: أسرار التخطيط العسكري الأميركي التركي “Generals’ Assembly: The Secrets of US-Turkish Military Planning,”، مصدر سابق. إلا أن هذا الزعم لا يمكن تأكيده. إن وثائق الحكومة الأميركية الرسمية الموجودة تبين، في الحقيقة، أن رفضا رسميا لطلبين تقدم بهما الكرد للحصول على دعم معنوي ومالي وكذلك مدهم بالسلاح في ايلول ١٩٦٢.
[2] لقد تجلت إنتهازية البعثيين والقوميين عموماً في موضوع المطالبة بالكويت فمن المعروف بأن المطالبة بالكويت وإعادتها إلى العراق قد إبتدأت في الثلاثينيات من القرن العشرين ليس من طرف العراقيين فحسب بل حتى من طرف سكان الكويت أنفسهم كون إقليمهم كان فقيراً جداً فلا ماء ولا زرع ولم يكن النفط قد أكتشف بعد. حين طالب قاسم بالكويت وقفت جميع القوى القومية المناهضة له بالضد من المطلب مسايرين موقف وسياسة عبد الناصر المعادية للعراق ولقاسم وإرساله قوات مصرية وقفت جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية الغازية إلا أنه من الطريف فأنه حين ذهب البعثيون العراقيون إلى عبد الناصر طالبين الوحدة معه في آذار- نيسان ١٩٦٣ أي بعد شهر ونصف فقط على إنقلابهم فقد طلبوا ترسيم حدود دولة الوحدة. تعجب ناصر من طلبهم فرد عليه البعثيون العراقيون بأن حدود العراق لم تكتمل بعد فقد إقتطع المستعمرون الكويت من العراق فلذا يجب إعتبار الكويت ضمن حدود دولة الوحدة بإعتبارها جزءاً من العراق! (محاضر محادثات الوحدة الثلاثية ١٩٦٣- من إصدارات الأهرام). [المعرب]
[3] القانون رقم (٨٠) لسنة ١٩٦١ والذي تم بموجبه تأميم ٩٩.٥٪ من الأراضي التي غطتها الإمتيازات منذ عام ١٩٢٧ ولم تستغل.
[4] يذكر ريتشارد سيل في مقالته في نيسان ٢٠٠٣ أن الأميركيين هم من كان يشجع صدام على الطلب من المصريين لزيادة مخصصاته مما أزعج المخابرات المصرية نتيجة إتصاله بالسي آي أيه. [المعرب]
[5] يذكر الدكتور جواد هاشم وزير التخطيط في حكومة البعث في تموز ١٩٦٨ في كتابه “مذكرات وزير عراقي في زمن البكر وصدام” بأنه قد أوفد من قبل النظام الجديد إلى القاهرة كي يشرح للرئيس عبد الناصر التغيرات التي حدثت. يقول جواد بأن عبد الناصر قد علق على صعود صدام إلى قمة السلطة بما معناه “نحن نعرف هذا الشخص جيداً حين كان لاجئاً هنا فهو بلطجي وسلوكه سيء وعنيف”.

الفصل السابع

١٩٦٣ إنقلاب البعث ـ السي آي أيه

شهد عام ١٩٦٢ في العراق تصاعدا هائلاً في التآمر على قاسم ووفق وثيقة تعود لسفارة الولايات المتحدة في بغداد مؤرخة في ٢٥ حزيران، فان مجموعة من الضباط “القوميين المعاديين للشيوعية” الذين كانوا يخططون لإسقاط الحكومة العراقية قد فاتحوا البريطانيين بمخططهم. و”طلبوا تأكيدات بإعتراف سريع وكذلك تزويدهم بمعدات عسكرية لتمكين الجيش من الإفلات من السوڤييت المصدر المهم للإمدادات”. هذه المجموعة لم تكن هي الوحيدة من بين المتآمرين العسكريين الذين كانت السفارة على علم بوجودها، تمضي البرقية قائلة “إن الضباط المنخرطين ليسوا هم أولئك في الحركة المذكورة في البرقية المشار إليها”. تشير هذه الوثيقة، في الأقل، الى برقيتين أُخرتين تستعرضان إتصالات السفارة بمتآمرين عسكريين حيث تتحدث البرقية كذلك عن ثلاث مجموعات أخرى من المتآمرين “غير البعث” والتي تشكل “خطراً فعلياً على قاسم” وتعرض تحليلاً سياسياً للوضع. تربط البرقية الرد البريطاني كذلك مع الإستفسار: “إن حكومة صاحبة الجلالة لا يمكنها التورط في السياسة الدولية، ولكن فأن اية حكومة عراقية يمكن لها أن تتوقع علاقات ودية إلى الحد الذي يرغب به العراق (المعلومات من المصدر). تبين وثائق حكومة ماكميلان أن بريطانيا في أقل من شهرين على الإنقلاب قد وافقت على “تدريب عدد من الضباط العراقيين وتزويد العراق بكميات أساسية من الاسلحة والمعدات بما فيها ناقلات أفراد مصفحة من طراز “ساراسن” Saracen وطائرات ” هوكر هنتر” واعتدة[1]. يبدو مرجحاً أن ضباط الجيش الذين إستفسروا من البريطانيين بشأن التكيفات التي يريدونها بعد إنقلابهم هم أنفسهم الضباط الذين قدموا الطلب بعد ذلك، وبهذا المعنى يكون البريطانيون قد قدموا بعض الدعم للمتآمرين قبل الإنقلاب بوعدهم بأنهم سيتخذون موقفاً “ودياً بالحد المرغوب”.
بعثت السفارة في يوم ٢٦ ايلول في تقريرها: “إن الحكومة والصحافة العراقية أصبحتا حتى أشد عداءً للولايات المتحدة وأكثر وداً تجاه الكتلة السوڤيتية”، ووفق أبو ريش فأن قاسم إكتشف المؤامرات التي كانت تستهدفه في كانون أول وقد عرف آخرون بالمؤامرة قبل موعدها وأن السفارة اليوغسلافية في بيروت، وعن طريق أحد مخبريها، قد إكتشفتها وأبلغت قاسم في بغداد بها أيضاً فجرى بعد فترة إعتقال موظفين عراقيين يعملون في السفارة الأميركية لا شك بتهمة التجسس. بدأت الحكومة العراقية تكراراً إتهامها للولايات المتحدة بالتآمر. يبدو واضحاً أن مخابرات قاسم قد اكتشفت أدلة على مساعدة الولايات المتحدة للمتآمرين ولكن الأميركيين بدورهم لم يردوا على الإتهامات علناً لكنهم نفوها بصرامة أمام الحكومة العراقية.
بعثت وزارة الخارجية الأمريكية ببرقية من الوزير رسك Rusk الى سفارتها في العراق في ٥ شباط ١٩٦٣ لبحث الوضع وتكشف الفقرة الثانية من البرقية عن وجود عناصر سرية مهمة تشملها قرارات قاسم بالطرد.
ملاحظات قاسم الأخيرة ربما كانت مصاغة عمداً لإستثارة رد فعل أميركي يمكن إستغلاله فيما بعد على انه “دليل” على عداء الولايات المتحدة للعراق وهو يخدم أساساً غرض تصعيد الحملات التي قمنا من قبل بالرد عليها ولكن لا يمكننا تجاهلها الآن. إن تصريحاتنا لا تُنشر داخل العراق دون تشويه وأن البث على الموجة القصيرة لن يكون له تأثير مجموعات واسعة. ستكون لدى قاسم حرية تشويه مواقف الولايات المتحدة داخل العراق بغية إيجاد مبرر لتسخين الحملة ضدنا وتشديد التحرش بالسفارة والقنصلية في البصرة. نحن لا نستبعد بأن يقوم قاسم بطرد موظفين مختلفين في بعثتنا وهذا ما سيهدد بتخفيض “وجود” يمثل عنصراً مهماً للولايات المتحدة (هناك سطر واحد من نص المصدر مازال سرياً).
إن “العنصر المهم” في السفارة من الجائز تماماً كان عنصراً ناشطاً في السي آي أيه بغطاء سري وفي وظيفة متدنية. عرض ليكلاند مقترِحاً بعد مناقشة هذه الوثيقة معه: “كان لدينا ملحق ثقافي يدير مكتبة ومركزاً ثقافياً، لقد كان جاسوساً”. لعل هذا هو “العنصر المهم” الذي تشير اليه برقية ٥ شباط ١٩٦٣.
أجرت صحيفة “لوموند” الفرنسية مقابلة مع قاسم نشرت أيضا في ٥ شباط ١٩٦٣. تصريحات قاسم بشأن الأميركيين والبريطانيين كانت تنم على إن واشنطن قد هددته:
“سوف لن أتحدث عن البريطانيين والأميركيين كثيراً، ما الشيء الذي لم يفعله هؤلاء كي يخضعوا العراق ويحكموا قبضتهم على ثرواتنا؟. أنظر … لقد استلمت قبل أيام مذكرة بلغة لا لبس فيها تنذرني بأن واشنطن ستفرض عقوبات على العراق إن لم أغير من مواقفي. كيف بإستطاعتنا تحمل لغة كهذه؟. إن كل متاعبنا مع الإمپرياليين قد بدأت يوم أكدنا حقوقنا المشروعة في الكويت. أنظر الى هذه الخريطة (يعطيني كراساً بعنوان “حقيقة الكويت” وخريطة الإمارة) … لاحظ هذه النقطة الخضراء البالغة الصغر. هذه هي الكويت، الجزء المغتصَب من بلدنا. قل لي رجاءً ما هي العناصر التاريخية أو الفكرية أو الإقتصادية التي تجعل من هذه الإمارة مملكة؟…. ليس لديها حتى ماء للشرب!)”.
يعتري الغموض تفاصيل المؤامرة التي دُبرت لإسقاط الزعيم العراقي ويذهب أبو ريش الى ان المؤامرة كانت بقيادة ويليام ليكلاند، عميل السي آي أيه السري والذي إتخذ صفة ملحق في السفارة في بغداد، إلا أن هذا الأمر خاطئ. إن ليكلاند كان شخصاً مهنياً في الخارجية عمل أثناء وقوع الإنقلاب ضمن ملاك الخارجية في سفارتها ببغداد بمنصب السكرتير السياسي الأول والقسم السياسي هو المكان الذي دائماً ما كانت تخفي فيه السي آي أيه عناصرها وهذه كانت حالة بغداد عام ١٩٦٣، فمن الطبيعي أن يفترض الناس أن ليكلاند، مدير هذا القسم، هو أيضاً رئيس محطة السي آي أيه. حقيقة أن رئيس المحطة كان آرت كالاهان Art Callahan وكان يتستر كموظف صغير في الدائرة السياسية في السفارة[2]. كان هناك مكتب منفصل تماًماً للسي آي أيه، بعدة موظفين، يعمل بمعزل عن الدائرة السياسية، ولكنه ظاهرياً كان يبدو أنه جزءاً منها رغم أنهما نادرا ما كانا يعملان معا[3].
جيمس أيكنز James Akins، وهو موظف مهني آخر كان يعمل بوزارة الخارجية بمنصب السكرتير السياسي الثاني عام ١٩٦٣. قال ليكلاند انه لم يكن يعرف أي بعثي قبل الإنقلاب ولكن “أيكنز نفسه كانت له علاقات ببعثيين كنشاط نموذجي لموظف في الخارجية ولكنهم ليسوا عملاء مأجورين وكانت له صلة مع أفراد ذات إتجاه بعثي” ومن الجائز أن أيكنز قد قام بتسهيل عملية الإتصال بين البعثيين العراقيين و السي آي أيه، ولعله كان متورطاً  في أكثر من ذلك، وعلى مر السنين فقد ألمح أيكنز الى أن أميركا متورطة في إنقلاب١٩٦٣ البعثي ولكنه لم يكن موافقاً على نشر ما يعرفه. إن أيكنز على الأرجح هو أحد “الدبلوماسيين السابقين” الذين كتب عنهم سلوگليت وسيل وپنروز والذين أخبروهم (في تصريحات ليست للنشر) عن علاقة الولايات المتحدة بالبعث قبل عام ١٩٦٣. ذكر لي العديد من الأشخاص بأن أيكنز كان معروفاً بإستعداده لتقديم المساعدة حول هذا الموضوع.
آرچيبولد روزفلت Archibald Roosevelt، من المرجح أنه كان على إتصال بأعضاء في حزب البعث قبل الإنقلاب، ففي مراسلاتي مع أبو ريش فقد أخبرني أن: “أحد الأشخاص المتورطين في التحضيرات لإنقلاب١٩٦٣ كان آرچي روزفلت والذي شغل منصب رئيس محطة بيروت قد عاد الى بيروت قبل بضعة شهر من الإنقلاب. كان آرچي يتكلم أربع عشرة لغة منها العربية والكردية، كان يعرف الكثيرين في العراق عندما خدم هناك بعد الحرب العالمية الثانية. قبل سنوات من ذلك، حين كان رئيس محطة في بيروت، كان متورطاً في إعتراض خطوات إقامة وحدة عراقية-سورية”. كتب لاحقا “ان الدورين اللذين لم أكشف عنهما شخصيا هما دور ماكهيل وآرچي روزفلت. لا أستطيع أن أخبرك كيف ولكني كنتُ أعرف الرجلين”. يتفق هذا مع تصريح روجر موريس بأن “ضباط السي آي أيه، ومن بينهم آرچي روزفلت حفيد تيودور روزفلت والمسؤول الرفيع في السي آي أيه لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا وقتذاك، قد تحدثوا بصراحة عن علاقاتهم الوثيقة مع البعثيين العراقيين”. نحتاج إلى المزيد من المعرفة الدقيقة كيف أن آرچي روزفلت ساعد الإنقلاب.
وصل نبأ لقاءات البعثيين العراقيين مع السي آي أيه إلى قادة البعث في دمشق حيث تنازعا، وبغض النظر عن طريقة إصطياد البعثيين العراقيين من قبل السي آي أيه فقد روى جمال الأتاسي والذي كان وزيراً في الحكومة السورية وقتذاك فحوى تلك النقاشات:
عندما اكتشفنا هذا الأمر، فقد جادلناهم وأكدوا بأن تعاونهم مع السي آي أيه والولايات المتحدة هو لغرض إسقاط قاسم والإستيلاء على الحكم- لقد قارنوا ذلك بكيف أن لينين قد وصل بقطار ألماني للقيام بثورته، قائلين أنهم وصلوا بقطار اميركي. في الحقيقة، فأن حتى حالة تسلم مقاليد الحكم في سوريا- كان هناك دفع من الغرب وبالتحديد من قبل الولايات المتحدة كي يستولي البعث على السلطة ويحتكرها ويطرد كل العناصر والقوى الأخرى (أي كلاً من الشيوعيين والناصريين).
إن الإشارة الى قطار لينين تعني أن البعثيين العراقيين كانوا يقبضون الأموال من الولايات المتحدة مثلما أخذ لينين والشيوعيون، كما يُزعم، قطاراً محملاً بالذهب من ألمانيا أثناء الحرب العالمية الاولى لمساعدتهم في ثورتهم البلشفية. هذه كانت هي الطريقة التي ساعدت بها الولايات المتحدة هذا الإنقلاب مالياً. كان هاري روزيتزكي، المحلل الإستخباراتي المخضرم في مكتب الخدمات الإستراتيجية (أو أس أس) والسي آي أيه قد وصف الإنقلاب في مذكراته بأنه مثال جيد على إنقلاب كان لدى المخابرات معلومات وافية عنه على النقيض من إنقلابات أخرى فاجأت الوكالة. كان عملاء السي آي أيه قد أحيطوا بتفاصيل دقيقة عن الإنقلاب البعثي.
كان العملاء في رئاسة حزب البعث في بغداد طيلة سنوات يحيطون واشنطن علماً بشأن كوادر الحزب وتنظيمه وإتصالاته السرية ومصادر تمويله ومدى تغلغله في طبقات الجيش والمدنيين في بلدان متعددة.
كانت مصادر السي آي أيه في موقع مثالي لمتابعة كل خطوة في تحضيرات البعث للإنقلاب العراقي والتي تركزت على إجراء إتصالات مع قادة عسكريين ومدنيين في بغداد. نقل المصدر الرئيسي للسي آي أيه من موقعه ساعة تنفيذ الإنقلاب على وجه الدقة وقدم قائمة بأسماء الوزارة الجديدة.
…إن التعاطي مع إنقلاب قادم يتطلب من السي آي أيه ان يكون لها مصدر من داخل المجموعة المتآمرة إلا أن من وجهة النظر الدبلوماسية فان إقامة إتصالات سرية مع متآمرين تستبطن، في الأقل، تواطؤاً غير رسمي في المؤامرة”.
إنه كان “تواطؤاً غير رسمي في المؤامرة” فعلاً فقد قدمت السي آي أيه أمولاً طائلة للحصول على المعلومات بصورة منتظمة، لا سيما وأن المخططين الأمريكيين حددوا بأن حزب البعث هو الأفضل بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة المستقبلية في العراق وأنهم يريدون دعم الإنقلاب. إعترف ليكلاند بأن ضابط السي آي أيه ايد كين أبلغه بأن الولايات المتحدة “كان لديها أشخاص يطلعونها حول كل الأمور… وأن السي آي أيه كانت على علم بما كان يحدث… دفعت السي آي أيه الى مخبرين من داخل حزب البعث ولكن لم يكن لديها أية سيطرة عملياتية… كانت سرية للغاية. أفصح ليكلاند عن هذه المعلومات وكرر ذكرها في أربع مناسبات مختلفة ولكن في كل مرة، وعندما يتذكر موقف كين المكتوب فإنه كان يصر على ان كل الإتصالات قد جرت بعد الإنقلاب وهو يعتقد قطعاً أن رواية ايد كين القائلة بأن “الإنقلاب كان مفاجأة تامة للوكالة، وأنا متأكد أنها كانت كذلك للحكومة الأميركية”. سمع أبو ريش من الجانب العراقي وهو عضو الوزارة البعثية التي شُكلت بعد الإنقلاب هاني الفكيكي[4] والكثير من العراقيين بأن السي آي أيه قد عملت مع حزب البعث قبل الإنقلاب وان هاشم جواد وزير خارجية قاسم[5] قد أبلغ الباحثة پينروز أن وزارته كان “لديها معلومات عن وجود تواطؤ بين البعث والسي آي أيه” والدليل الأنصع المباشر على تواطؤ الولايات المتحدة هي المذكرة التي رفعها عضو مجلس الأمن القومي بوب كومر الى الرئيس جون كينيدي ليلة الإنقلاب، في ٨ شباط ١٩٦٣، إذ تقول فقرتها الأخيرة:
“سنثير ضجيجاً ودياً غير رسمي حال أن نجد مَنْ نتحدث معه، وينبغي الإعتراف بمجرد التأكد أن هؤلاء قد أخذوا بناصية السلطة بثبات. ــــــــــــــــ تقارير ممتازة عن مؤامرة، إلا أني أشك من أنهم أو المملكة المتحدة يدّعون فضلاً كبيراً فيها”.
ما زالت هناك ثماني كلمات مطبوعة بالآلة الكاتبة مصنفة كأسرار تقع قبل كلمة “تقارير ممتازة”. إن عبارة “لدى السي آي أيه” قد تنسجم هنا انسجاماً تاماً وهي ربما ما ورد في الأصل. يتفق هذا مع مذكرات روسيتزكي التي كتب فيها ان السي آي أيه كان لديها “مصدر رئيسي في موقع مثالي”. كان سيتعين عليهم ان يدفعوا أموالاً لقاء ذلك، لكنهم ربما لم يفعلوا أكثر من تمويل الإنقلاب ولهذا السبب كتب كومر: “لدي شك في إدعاءات السي آي أيه أو المملكة المتحدة [الإستخبارات البريطانية] بأن لهم الفضل فيه”. هم يستطيعون أن يدعوا ببعض الفضل فيما تحقق ولكن ليس كثيراً، فهم في الأقل قد ساعدوا في تمويل الإنقلاب وقدموا تأكيدات بأن البعث سيلقى ترحيباً جيداً في واشنطن ولعلهم قد قدموا مساعدة أكبر لم يكن كومر يعلم بها أو انه قد أستبعدها.

قبل تنفيذ الإنقلاب، أمر قاسم في ٣ شباط ١٩٦٣ بإعتقال العقيد صالح مهدي عماش، قائد الإنقلاب والمخطَّط له وحامل أسراره كلها. كان عماش ملحقاً عسكرياً سابقاً في السفارة العراقية في واشنطن (حيث جرى تجنيده على الأرجح هناك)[6]، وهو أحد رجال الإتصال من جانب حزب البعث مع السي آي أيه وفي اليوم التالي أعتقل قاسم القائد المدني لحزب البعث علي صالح السعدي. أدى اعتقال عماش والسعدي وعدد من المتآمرين الآخرين الى التحرك بسرعة خشية ان تتسرب تفاصيل كثيرة عن الخطة خلال الإستجواب فأصدر احمد حسن البكر، القيادي العسكري في حزب البعث، أوامره بالشروع في التنفيذ يوم ٨ شباط، أي قبل إسبوعين من الموعد.

كانت الخطة تتضمن القيام بتحركات عسكرية لعزل وحدات الجيش الموالية لقاسم وإحتلال محطتي الاذاعة والتلفزيون وتصفية أنصار قاسم الرئيسيين مثل جلال الأوقاتي ووصفي طاهر وإعتقال قاسم وإحتلال مقر رئاسته في مبنى وزارة الدفاع. كان الضباط البعثيون الذين قادوا الإنقلاب هم احمد حسن البكر وعدنان خير الله (كلاهما تكريتيان من اقارب صدام) [7] ومنذر الونداوي وحردان التكريتي وعبد الستار عبد اللطيف وخالد الشاوي. كان للبعث تأييد شعبي واسع لدوره النشيط في التمرد القومي ومحاربة الشيوعيين، وصموده أثناء المحاكمات. بقي الكثير من الجنود أوفياء لقاسم مما أدى إلى إندلاع قتال واسع. ووفق ما أورده حسين ملك الأردن، فان السي آي أيه كانت توجه المقاتلين البعثيين من مركز قيادة إلكتروني في الكويت ولكن ليس بالإمكان حتى الآن التحقق من صحة ذلك بما يسنده من وثائق الحكومة الأميركية أو تصريحات “منشورة”. وكتب أبو ريش: “إن مركز القيادة الألكتروني في الكويت… كان يوجه الوحدات المتمردة، بمن فيهم منذر الونداوي، الذي كان الطيار الوحيد[8] الذي انضم الى المتمردين، وتولى لاحقا قيادة الحرس القومي”.
بعد يومين من القتال الشرس داخل مبنى وزارة الدفاع والتي كانت محاصرة من الأرض وتُقصَف من الجو إستسلم قاسم. كتب أبو ريش ما يلي:
“لأجل خلود شرفه، رفض قاسم أن يُسلح عشرات الآلاف من الشيوعيين والفلاحين والعمال الذين ساروا الى مقره متقدمين للدفاع عنه، في حين قام البعثيون بتسليح المدنيين وإستخدامهم كقوة إسناد لهم. حين إستسلم قاسم في النهاية… فقد كان إستسلامه حماية لبلده وحقناً لمزيد من الدماء. بعد أن رُفض طلبه بالاحتفاظ بسلاحه الشخصي وتقديمه الى محاكمة علنية، إمتنع قاسم عن الإجابة على أسئلة آسريه رافضاً أن تُعصب عيناه ومات ضابطاً نبيلاً وهو يهتف “عاش الشعب العراقي”. هو إدراك متأخر لما عمله قاسم من أجل الفقراء وزهده في الحياة والإعتراف بحقوق الكرد لأول مرة على الإطلاق… فما زال قاسم يحظى بحب الشعب العراقي أكثر من أي زعيم في هذا القرن.
إنقلابيو ٨ شباط ١٩٦٣

[1] فعلاً فقد ظهرت مدرعات حديثة في الشوارع والميادين العامة لم نألف شكلها من قبل ركبت عليها مدافع رشاشة ثقيلة وذلك بعد أشهر من إنقلاب شباط. كنت صغيراً وبالتحديد في منطقة الصالحية، ومن باب الفضول، سألت الجنود المحيطين بالمدرعة عن مصدرها فأجابني أحدهم بأنها أميركية. [المعرب]
[2] وفقاً لـ “إد كين” فأن جميع عملاء السي آي أيه والذين عملوا سراً في القسم السياسي في وزارة الخارجية الأميركية في بغداد قد توفاهم الأجل وبضمنهم رئيس المحطة آرت كالاهان وهاگ فليشرو تيد أتكنز، مقابلة مع ضابط العمليات المتقاعد في السي آي أيه إد كين في أيلول ٢٠٠٥.
[3] سواء أكانوا دبلوماسيون أم مخابراتيون فأنهم جميعاً يمثلون الدولة التي تستخدمهم وأن هناك سلطة عليا يرتبطون بها جميعاً وفي النهاية فأن البراءات الفردية من السياسات أو الأعمال العدوانية ليس لها أية قيمة في نظر المتضرر. حين أبرز الزعيم لموفد اللوموند الفرنسية يوم ٥ شباط ١٩٦٣ التهديد الذي وصله من الأميركيين فهل كان التهديد من قبل السي آي أيه أم عن طريق قناة دبلوماسية؟ [المعرب]
[4] هاني الفكيكي كان عضو القيادة القطرية لحزب البعث العراقي وعضو في المجلس الوطني لقيادة الثورة ولم يستوزر في وزارة الإنقلاب. كتابه “أوكار الهزيمة” هو من أهم الوثائق التاريخية التي تؤرخ للحزب والإنقلاب وما جرى بعد الإنقلاب. [المعرب]
[5] يذكر الدكتور هاشم جواد، وزير خارجية العراق في عهد قاسم في مذكراته حين كان يحضر إجتماعات الجمعية العامة للأم المتحدة وكان ذلك أثناء أو بعد أزمة الصواريخ السوڤيتية في كوبا بأن دين راسك وزير خارجية الولايات المتحدة قد إقترب من مقعده وقال له “سنكسر رأس زعيمكم” وكان يقصد الزعيم عبد الكريم قاسم بعد أن وقف العراق بجانب السوڤييت وكوبا في خلافهما مع الولايات المتحدة. [المعرب]
[6] لقد كافأ النظام الملكي عماش بنقله إلى واشنطن لأنه كان هو الضابط المسؤول عن شراء السلاح من أورپا وإيطاليا تحديداً ومن ثم نقله إلى المتآمرين في سوريا والمدعومين من قبل الولايات المتحدة والنظام الملكي في العراق للإطاحة بالنظام السوري القائم عام ١٩٥٧، وكما ورد في الأطروحة في معرض ذكرها محاولات السي آي أيه لقلب أنظمة الحكم في إيران وسوريا وبالتالي إلحاق سوريا بإتحاد هاشمي عراقي-أردني وإعادة حكم الهاشميين إلى سوريا بعد أن طردهم منها الفرنسيون عام ١٩٢٠. هذا ما ورد في محاضر محكمة الشعب أثناء محاكمة مسؤولي العهد الملكي. فيما يتصل بموضوع محاولات الإنقلاب في سوريا أعوام الخمسينيات يمكن مراجعة مقالة روبرت كينيدي الأبن المنشورة على موقعنا. [المعرب]
[7] لربما يقصد المؤلف أحد الذين يحملون لقب “التكريتي” وهم كثر ومنهم حردان التكريتي ورشيد مصلح التكريتي وطاهر يحيى التكريتي وآخرون حيث أن عدنان خير الله يومها كان ضابطاً صغيراً. [المعرب]
[8]  لم يكن منذر الونداوي الطيار الوحيد الذي شارك في الهجوم على وزارة الدفاع فقد كان معه العقيد حردان التكريتي والرائد محمد جسام الجبوري. لقد تصدت المقاومات الأرضية لوزارة الدفاع لإحدى الطائرات فسقطت في ميدان أم الطبول. ظلت الطائرة هناك لغاية عام ١٩٦٨ لم يتبقى منها سوى جزء من المحرك وكنا شهوداً عياناً عليها هناك عام ١٩٦٧. [المعرب]

الفصل الثامن

بعد الإنقلاب

مثَّل البعثيون بجثمان الزعيم قاسم ودنسوه عارضين إياه بإستمرار على الشعب[1]. قام المدنيون المسلحون (الحرس القومي) في الأسابيع اللاحقة للإنقلاب بملاحقة الشيوعيين واليساريين والمتعاطفين معهم وسجنهم وتعذيبهم وإطلاق النار عليهم. إستمر سفك الدماء لعدة أشهر وتراوحت التقديرات بشأن أعداد الذين طالتهم التصفيات من (٧٠٠) الى (٣٥٫٠٠٠). مع إجماع على أن الرقم يقرب من (٥٫٠٠٠). قُتل عراقيون أبرياء، وتعرض للتعذيب شيوخ ونساء حوامل حتى الموت أمام أولادهم. يتفق سائر الكتاب والشهود على ان شريحة واسعة من نخبة المجتمع العراقي، بينهم أطباء ومحامون واساتذة جامعيون وطلبة، كانوا من بين الضحايا. احتُجِز الآلاف وكان التعذيب ممارسة شائعة في المعتقلات المؤقتة. وكتب كون كوغلن الصحفي في الديلي تلغراف ومؤرخ صدام:
كانت واحدة من أسوأ غرف التعذيب صيتاً تقع في معتقل قصر النهاية… كان هناك واحداً من أبشع ممن مارس فنون التعذيب وهو ناظم گزار والذي أصبح لاحقاً مديراً للأمن العام لنظام صدام… ذاع صيت گزار بتلذذه في ممارسة العنف العبثي حتى انه نجح في ترهيب رفاقه في الحزب. كان لديه إستمتاع خاص بإجراء التحقيق بنفسه واطفاء سيجارته في عيون ضحاياه.
الحكومة العراقية نفسها تصف القصر وصفاً مخيفاً ففي أقبيته التي كان “المكتب” يستخدمها مقرا له، عُثر على كل أصناف أدوات التعذيب البشعة من أسلاك كهربائية وكماشات وقضبان حديدية مدببة لإجبار المعتقلين الجلوس عليها وآلة ما زالت تحمل آثار أصابع مقطوعة. كانت هناك أكوام صغيرة من الملابس الملطخة بالدماء مبعثرة في المكان وبُرك من الدماء على الأرض وبقع على الجدران”.
ذكر العديد من الكتاب ان السي آي أيه قد زودت قوائم بأسماء اليساريين المطلوب تصفيتهم ووفق أبو ريش:
كان مصدرهم الأول هو ويليام ماكهيل William McHale، وهو عميل في السي آي أيه يعمل تحت غطاء مراسل لمجلة تايم وهو أخ دون ماكهيل الذي أصبح لاحقاً ضابطاً كبيراً في الوكالة في واشنطن. حصل ماكهيل على هذه الأسماء في بيروت من ضابط أمن سابق في العهد الملكي وهو نائب مدير الأمن بهجت العطية الذي أُعدم شنقا في عام ١٩٥٨ حيث كانت المعلومات قديمة ولكن ماكهيل وإن كانت قائمته أطول القوائم فانه لم يكن الوحيد، فقد ساهم في هذا العمل المشين ضابط مباحث مصري كبير وبعثيون مسيحيون في لبنان ومجموعة صدام الصغيرة في القاهرة وأفرادٌ وجماعات أخرى”.
طبقا لما أورده الكاتب مالك مفتي فان أسماء المطلوب قتلهم بُثت ايضا عبر مركز القيادة الالكتروني من الكويت ووفق كون كوغلن Con Coughlin؛ فأن “البعثيين قد أعطوا (ضمانات) للسي آي أيه بأن جميع المعتقلين ستُجرى لهم محاكمات عادلة. كشفت الولايات المتحدة تواطأها في الإنقلاب وبخرق الپروتوكول الدبلوماسي والإيعاز للقائم بأعمالها في بغداد بالإتصال بالمتمردين بعد ساعات من الإنقلاب والتعهد بالإعتراف بحكمهم. كان تورط السي آي أيه معروفاً جيداً قبل ذلك. كتبت صحيفة لاكسپرس “L’Express “، إن إنقلاب العراق كان من وحي السي آي أيه وإن الحكومة البريطانية وعبد الناصر نفسه على علم بتحضيراته”. نقلت صحيفة “الأهرام” بعد سبعة أشهر من الإنقلاب عن الملك حسين قوله:
“تقول لي أن المخابرات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام ١٩٥٧. إسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في ٨ شباط ١٩٦٣ قد حظي بدعم المخابرات الأميركية، ولا يعرف بعض من يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني أعرف الحقيقة. لقدُ عُقدت عدة إجتماعات بين حزب البعث والسي آي أيه، وعُقد أهمها في الكويت. هل تعلم بأنه… في يوم ٨ شباط كانت هناك إذاعة سرية موجهة إلى العراق، وكانت تزود رجال الإنقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم”.
إعترف علي صالح السعدي قائلا “جئنا الى الحكم بقطار اميركي”. ألكسندر كوكبرن Alexander Cockburn رئيس قسم الشرق الأوسط وجنوب آسيا في السي آي أيه أوائل الستينيات، وفي مقابلة أُجريت معه عام ١٩٩١، أوضح أن جيمس كرتچفيلد إعترف له بأن إنقلاب ١٩٦٣ كان الإنقلاب المفضل عند السي آي أيه. “كنا حقاً على علم بكل الأسرار العليا بما كان يجري.. وقد إعتبرناه انتصاراً عظيماً”. كتب روجر موريس في السنوات الأخيرة لصحيفة نيويورك تايمز عن تواطؤ السي آي أيه في الإنقلاب، عن بتجربة شخصية:
“كنتُ أعمل موظفاً في مجلس الأمن القومي في أثناء رئاستي جونسون ونيكسون أواخر الستينيات وغالباً ما كنتُ أسمع ضباط السي آي أيه، بمن فيهم آرچيبالد روزفلت، حفيد تيودور روزفلت والمسؤول الكبير في السي آي أيه لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا في حينه، يتحدث علانية إلى ضابط كبير في الوكالة عن علاقاتهم الوثيقة بالبعثيين العراقيين”.
كشفت الأفعال بعد الإنقلاب عن وجود تعاون مديد بين البعث والسي آي أيه. يكتب أبو ريش أن الأميركيين قاموا في غضون (٢٤) ساعة بتزويد العراقيين بـ “معدات عسكرية وبدأوا بمد جسر جوي بين تركيا وإيران وكركوك في شمال العراق. كانت الأسلحة التي تقدمها أميركا الى الجيش العراقي تُستخدم في القتال ضد الكرد”. الأميركيون حتى أنهم “نصحوا صراحة الزعيم الكردي جلال طالباني[2] أن ينهي تمرده”. يقول ليكلاند انه لم يسمع بذلك قط ويعتقد انه مجرد خيال، ولكن جيف ماكونيل الذي يكتب لصحيفة “بوسطن غلوب”، يؤكد معلومات أبو ريش بشأن الجسر الجوي فقد أجرى ماكونيل مقابلة مع بروس تي اوديل الذي “تولى مسؤولية الجسر الجوي منتحلا صفة معاون خاص للسفير الأميركي في بغداد” ففي مقابلة جرت في الاسبوع الماضي، في ايلول ١٩٩٠، أكد على العملية الناجحة للجسر الجوي” ووفق ماكونيل فان “السي آي أيه سرعان ما شرعت في نقل السلاح جواً الى العراق للمساعدة في إسباغ المصداقية… على حزب البعث”.
إضافة إلى ذلك بوفق أبو ريش، فقد أطلق سراح العقيد صالح مهدي عماش من السجن وعُين وزيراً للدفاع”. كان أول طلب قدمه اليه استاذه وصديقه الأميركي ليكلاند مقايضة أسلحة أميركية، والتي كان الإنقلابيون بحاجة ماسة اليها، بطائرات الميگ ٢١ ودبابات تي ٥٤ وصواريخ سام. أراد الأميركيون تقويم فاعلية الأسلحة السوڤيتية، وخاصة طائراتهم. كان من المفروض ان ينجز ذلك في غضون ٤٨ ساعة بعد نجاح الإنقلاب، ولكن يقول ليكلاند انه لا يعرف شيئا عن ذلك ولم يسمع بإسم عماش ويعتقد أن التقارير التي تتحدث عن تبادل الأسلحة هي تقارير خيالية. لم أتمكن من التحقق من ذلك في ضوء وثائق الحكومة أو المقابلات أو أي مصدر مكتوب آخر، لذا يتعين أن نعرف المزيد للتأكد من حقيقة هذا الأمر[3].
تطورت علاقات تجارية يشار إليها بالبنان بين الشركات الأميركية والبريطانية وحزب البعث العراقي وسُمح لشركات شل وبريتش بتروليوم وبكتل وپارسون وموبيل وغيرها بالعودة الى العراق، وأصبح وزير الخزانة الأميركي السابق روبرت اندرسن رائداً للعلاقات التجارية العراقية الأميركية حين كان يدير شركة تدعى إنترسرInterser، وهي أساسا جبهة السي آي أيه والتي جميع مدرائها بإستثناء واحد فقط ناشطون في الوكالة. بدأ اندرسن بالتفاوض بشأن منح إمتياز إستخراج الكبريت الى شركة پان أميركان للكبريت وبدأت شركات أميركية مفاوضات لبناء منشآت خاصة لحوض جاف في البصرة. إن الوثائق الأميركية الرسمية التي توفرت بعد إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ هي وثائق فاضحة، أولا، هناك مذكرة روبرت كومر السرية الى الرئيس، مكتوبة بتاريخ ٨شباط/١٩٦٣ لإطلاعه بإيجاز على الإنقلاب:
في حين أن الوقت ما زال مبكرا، ولكن كما يبدو ان الثورة العراقية قد نجحت ويكاد يكون من المؤكد أنها مكسب لصالحنا.
إن القوة الرئيسية المحركة لهذا العمل، حسن التنظيم، هو حزب البعث، وهو تنظيم يساري معتدل لكنه معاد للشيوعية وله علاقات جيدة بالجيش. ليس واضحا بعد ما إذا كانت الغلبة ستكون للسياسيين البعثيين أم للعسكريين القوميين ولكن في الحالتين سيكون نظام الحكم مفضَّلا على حكم قاسم. ووفق تقديرنا فإنه (١) سيعمل على موازنة الوجود السوڤييتي الكبير بتحسين العلاقات مع أميركا وبريطانيا و(٢) يكون أكثر تعقلاً مع شركات النفط و(٣) مؤيداً لعبد الناصر ولكنه يعارض الوحدة و(٤) يتفاهم مع الكرد ويتخلى عن الكويت.
يحاول عبد الناصر أن يحتضن الفريق الجديد، لكننا نشك فهو يصفر في الريح. سنثير ضجيجاً ودياً غير رسمي حالما نجد مَنْ نتحدث معه، وينبغي الإعتراف بمجرد التأكد أن هؤلاء قد أخذوا بناصية السلطة بثبات [كلمتان في نص المصدر ما زالتا مصنفتان سرياً] … تقارير ممتازة عن التخطيط للمؤامرة، لكني أشك في أنهم أو بريطانيا يدعون الفضل أكثر لما حدث”.
هذه الوثيقة هي دليل دامغ، تم تناوله سابقاً، ولعل كومر لم يكن على علم بمدى التورط في المؤامرة وتنفيذ الإنقلاب فهو “يشك” فيما إذا كان “لهم أن يدعّوا الفضل فيه”. إن إستخدام كلمة “الشك” يشير الى انه لم يكن متأكدا ويعود ذلك الى ثقافة السرية في إدارة شؤون الوكالة، إذ ما كان لكومر أن يطلع على كل التفاصيل إلا إذا طلبها هو بنفسه ويبدو انه لم يتلق إلا تقاريراً موجزة عن المؤامرة. إن عرض روسيتزكي للإنقلاب قد ورد في مذكراته، ويبدو ان هذا هو النموذج المتبع في توصيل معلومات الإنقلاب الى عدد قليل من المسؤولين الحكوميين وإطلاعهم عليه بإيجاز. إن الجملة الأخيرة هي أيضاً إعتراف ضمني، في الأقل، ببعض التورط المباشر في الإنقلاب، ولهذا السبب فقد صُنفت الجملة كلها من الأسرار حتى حزيران ٢٠٠٢، عندما قللت حساسيتها ما عدا الكلمتين الأوليتين بموجب طلب المراجعة الإلزامية الذي قُدم الى إدارة الأرشيف وإدارة السجل الوطني التي تدير مكتبة كينيدي.
كان كومر يعرف أن بريطانيا متورطة أيضا بواسطة جهاز MI5- أو MI6- أو SIS، ولا يُعرف إلاّ القليل عن دورها عدا تقديم وعد للمتآمرين بأنها ستتخذ موقفا وديا والحفاظ على الوعد. يبدو واضحاً بأن كومر قد إستخدم اسم “المملكة المتحدة” كعنوان عام نتيجة تداخل أجهزة الإستخبارات البريطانية والتي كانت تعمل كلها في الشرق الأوسط وقتذاك. قام جهاز أم آي ٦ بأستخدام عملاء السي آي أيه في إنقلاب١٩٥٣ في إيران وذلك لأن جميع البريطانيين كانوا اشخاصاً غير مرغوب فيهم في إيران آنذاك. كان للبريطانيين ولعقود طويلة دمى يحكمون من خلالها كلا البلدين ولا يشذ الوضع في العراق عما في إيران. إن إستخدام عملاء السي آي أيه ربما كان سبيلاً آخر ساعدت من خلاله بريطانيا في إنقلاب ١٩٦٣ وهذا ما يفسر المعنى الكامن وراء إستخدام كومر “المملكة المتحدة”.
دللت المذكرة الداخلية لوزارة الدفاع في ٨ شباط أيضاً عن بعض الخيوط:
يبدو أن الإنقلاب كان بيد حزب البعث. سرت شائعات واسعة تشير الى ان الحزب يخطط لإنقلاب منذ أشهر عديدة. يعتقد عناصر السي آي أيه أن الإنقلاب كان بسبب قيام قاسم مؤخرا بإعتقال عدد كبير من أعضاء حزب البعث. شعر الأعضاء الباقون، وهم ما زالوا كثيرين، إن كان عليهم التحرك للقيام بإنقلاب فيجب عليهم تنفيذه الآن”.
هذا هو دليل روسيتزكي حول “التنبؤ بأدق التفاصيل”، كما وردت الإشارة الى تحليل السي آي أيه وهي شهادة إضافية لما ذهب إليه أبو ريش من أن الإنقلاب قد نُفذ بسبب إعتقال عماش ومتآمرين آخرين، وأن وزارة الدفاع الأميركية كانت تعلم بذلك مسبقاً عن يوم الإنقلاب! فكيف للآخرين أن يعرفوا ذلك بدون “التقارير الممتازة عن التخطيط للمؤامرة” التي يتحدث عنها كومر؟
حذرت وثائق الحكومة في الأيام التي أعقبت الإنقلاب من التظاهر بعلاقات مكشوفة جداً مع الحكومة الجديدة. مذكرة السكرتير التنفيذي لوزارة الخارجية بروبك Brubeck الى مساعد الرئيس الخاص لشؤون الأمن القومي، ماك جورج بَندي McGeorge Bundy تقول:
في إطار عدم الإنحياز، من المرجح ان يكون العراق راغباً في إقامة علاقات صداقة مع الولايات المتحدة. يجب ان نبدو بأننا ذلك الصديق البارز الوجود وفي موضع التقدير لكنه لا أن يكون طاغياً. يجب تفادي كل ما ينم عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية. يجب الحرص كذلك على تجنب خلق إنطباع بأننا قد أنجبنا النظام أو نحاول الآن رعايته”.
إن قلق بَندي من تعبير “خلق إنطباع بأننا قد أنجبنا النظام” على أنه تعبير صريح كاشف للحقيقة. لعل بندي كان يعرف ان الولايات المتحدة حقاً هي من أنجبت النظام أو بتعبير أدق كانت هي قابلته.تفضح هذه الوثائق بأن الولايات المتحدة متورطة في الإنقلاب، ومن الممكن فأن المعارضة المفتوحة التي تلت ذلك قد خلقت ضغطاً في الإدراك العراقي والعربي العام وبذا فأن الإختيار يكون مستحسناً جداً ورغم تخطيطها الدقيق وصورتها فأن الولايات المتحدة بدعمها المستمر لإسرائيل وللحكام المسلمين المستبدين الموالين للغرب والفاسدين في نظر شعوبهم، وجدت نفسها قد سقطت أكثر فأكثر في نظر الشارع العربي.

[1] عرضت جثامين المغدورين بطريقة بشعة، قاسم ورفاقه الذين ظلوا أوفياءً له وللعراق لآخر لحظة، وهم الزعيم فاضل عباس المهداوي والزعيم طه الشيخ أحمد والملازم كنعان حداد على شاشة التلفزيون ولمرات عديدة في يوم ٩ شباط ١٩٦٣ تحت عنوان “نهاية القتلة المجرمين” وكان التعليق بصوت المذيع قاسم نعمان السعدي والذي توفي بعد ذلك بطريقة غامضة، كما عرضوا جثمان الزعيم وصفي طاهر قتيلاً في نفس اليوم. يروي سائقه الخاص بأن وصفي لم يتحمل الذل فإنتحر أمامي. بعد عدة أيام قتل الزعيم الركن ماجد محمد أمين بعد معركة مع الحرس القومي في منطقة النعمانية وعرض جثمانه كذلك على التلفزيون. لا يعرف لغاية هذه اللحظة أين دفنت جثامينهم كما لم يعثر على جثمان اللواء عبد الكريم الجدة في وزارة الدفاع حيث روي أنه قد تناثر جسده نتيجة قصفه بصاروخ من الطائرات المهاجمة. إنتشر خبر بأن جثمان الزعيم قاسم قد وضع في كيس وربطت به أثقال ورمي من على الجسر في نهر ديالى في اليوم الثاني لإغتياله. كان هدف الإنقلابيين من هذا العمل الإجرامي الشنيع هو التأكيد للشعب بأن قاسم قد قتل ولا أمل في المقاومة. ظلت عموم الناس تعتقد بأن قاسم ما زال حياً وسيخرج في يوم ما وظل العوام يرددون بأنهم رأوا صورته مرسومة على القمر. من الطريف بأن الإنقلابيين أنفسهم قد صدقوا إشاعة أن الزعيم مازال حياً وهو يتنقل في مدينة الثورة فقام الإنقلابيون بتطويق الحي للبحث عنه. وفي اليوم التالي خرجت إحدى صحفهم مستهزئة بتلك الإشاعة وكتبت مقالاً إفتتاحياً مطولاً تحت عنوان “الزعيم الحي” مما زاد لدى العوام شعور بأن الزعيم لم يقتل.[المعرب)
[2]  ربما يقصد الكاتب هنا الملا مصطفى البرزاني قائد التمرد الكردي آنئذٍ وليس جلال الطلباني. لقد إنتهى التمرد بعد الإنقلاب مباشرة لسبب أن البرزاني كان قد تواطؤ مع الإنقلابيين وأيد الإنقلاب فوراً، لكن شهر العسل لم يدم مع الإنقلابيين طويلاً ففي شهر حزيران/يونيو من نفس العام عاد فإندلع القتال ثانية بعد أن تملص الإنقلابيون من تعهداتهم في إعطاء الكرد بعضاً من حقوقهم. [المعرب)
[3] لقد ذكر هذه المعلومة هاني الفكيكي في مذكراته “أوكار الهزيمة” بالتفصيل وكيف أن شخصاً ما لم يذكره بالإسم قد جاء بعرض بأن يتم تبادل أسرار السلاح السوڤييتي بصواريخ أميركية يمكنها أن تخمد التمرد الكردي خلال أيام وهذا يعني بأن العرض كان بعد إندلاع القتال في حزيران وليس بعد نجاح الإنقلاب كما تذكر الإطروحة. كان هناك لربما إتفاقاً سابقاً وقد تم إحياؤه حين حانت الفرصة. يقول الفكيكي بأن البكر وبعد أن وجد من يعارض هذه الصفقة إقترح بأن يأتي الأميركيون إلى هنا بدلا من شحن تلك الأسلحة إليهم! حينها فقد هدد بعض أعضاء القيادة الإنسحاب إن طرح هذا الموضوع ثانية. فصل الفكيكي كذلك سر الأستاذ اللبناني في جامعة بغداد إيلي زغيب وكيف أنه كان حلقة الوصل بين قيادة عفلق والسي آي أيه وكيف أن اللجنة التي رأسها لجرد محتويات مكتب قاسم قد إكتشفت ذلك من خلال ملف كان يحتفظ به الزعيم قاسم وأشر عليه بأن تكثف المراقبة عليه كي يمسك بالجرم. حين إكتشفت اللجنة الأمر تم الإتصال بطالب شبيب، وزير خارجية الإنقلابيين لأن على علاقة بزغيب، فإعتذر عن ضيق وقته نتيجة لإجتماعه بالسفراء الأجانب وأنه سيعود إليهم في وقت لاحق. في اليوم التالي إكتشفت اللجنة أن إيلي زغيب قد غادر العراق برًاً عن طريق الرطبة ليلة إكتشاف أمره، من الواضح بأن الفكيكي في شهادته هذه يتهم الشبيب بإعلام زغيب وتسهيل هروبه. يبدو أن الشبيب كان هو حلقة الوصل بين حزب البعث وإيلي زغيب غير أنه كان هو من نقل لقيادة البعث عرض شخص أميركي كان أحد عملاء السي آي أيه ويدير مكتباً إستشارياً هندسياً في بغداد بمساعدة الحزب في التخلص من قاسم وفق شهادة الفكيكي. [المعرب)

الفصل التاسع

العواقـــــــب

عند حلول شهر تشرين الثاني ١٩٦٣ وجد حزب البعث نفسه خارج السلطة. دخل الجناح المدني لحزب البعث في صراع مع الجناح العسكري (الذي كان صدام جزأً منه) منذ اليوم الأول للإنقلاب[1]. خلال حملة الإعتقالات والتطهيرات ضد اليساريين فقد إنشق الجناح العسكري هو أيضاً الى كتلة أشد تطرفاً تريد ملاحقة الشيوعيين بأشد الأساليب قسوة وكتلة مقابلة تدعو الى الإعتدال. كان عارف زعيما للجناح المدني[2]، وقد إستثمر عارف هذا الإنشقاق لإقصاء البعثيين من السلطة في ١٨ تشرين٢. إبتداءاً من هذا المنعطف، ثابر الجناح العسكري لحزب البعث للعودة الى السلطة حتى نجح في عام ١٩٦٨ بعد وفاة عارف الثاني في عام [3] ١٩٦٧. كتب عادل درويش وغريغوري ألكساندر عن محاولة إنقلابية قام بها البعثيون مرة أخرى عام ١٩٦٤، إلا أن هذا هو المصدر الوحيد الذي يشير إلى المحاولة. ينفي أبو ريش وجود أية مؤامرة في عام ١٩٦٤ ولم يرد درويش والكساندر على استفساراتي بخصوص الواقعة وإلى أن تتوفر أدلة أخرى فان تخطيط السي آي أيه للقيام بإنقلاب في عام ١٩٦٤ لا يمكن ان يعتبر واقعة تاريخية.
ركز صدام حسين على بناء “جهاز حنين”، بعد فقدان البعث للسلطة في تشرين٢ ١٩٦٣والذي كان بمثابة جهاز المخابرات والأمن البعثي وفي الفترة من ١٩٦٤ حتى الإنقلاب البعثي في تموز ١٩٦٨، إنخرط أفراد الجهاز بإغتيال الشيوعيين والطلاب والنقابيين وكانوا يستخدمون العنف ضد كل مَنْ تشكل أفكاره أو نشاطاته تهديداً للبعث، بمن فيهم بعض البعثيين. “إدعى أعضاء سابقون في حزب البعث أن السي آي أيه كانت تزود جهاز حنين بأسماء ناشطين يساريين كان صدام يقوم منهجياً بتصفيتهم بعد ذلك”[4].
يذكر أبو ريش بأنه في عام ١٩٦٦ كتب صدام رسالة الى القنصلية الأميركية في البصرة طالباً المساعدة للإطاحة بالحكومة. هذا أيضا ما لا أستطيع التحقق منه من أي مصدر آخر أو أية مقابلة. يقدم أبو ريش ودرويش وألكسندر تفاصيل كثيرة عن تورط الولايات المتحدة والسي آي أيه في إنقلاب عام ١٩٦٨ فبعد الحرب العربية الاسرائيلية في حزيران ١٩٦٧ عمَّت الشارع العراقي مشاعر العداء لأميركا بسبب دعمها للإسرائيليين. كان من الصعب في هذا الظرف ان يقوم أي شكل من أشكال التعاون الأميركي-البعثي، ولكن أبو ريش ودرويش يذكران بأن معظم المساعدة الأمريكية للبعثيين كانت قبل الحرب.[5]
أول حكومة بعد إنقلاب ١٧ تموز ١٩٦٨
إستولى البعث على السلطة مرة اخرى وأخيرة في تموز ١٩٦٨ وقد أشار العديد من الكتاب الى تورط الولايات المتحدة في هذا الإنقلاب أيضا، وكتب النايف في مذكراته بعد سنوات: “بالنسبة لإنقلاب ١٩٦٨ يجب أن تصوبوا أنظاركم الى واشنطن”، وكتبت صحيفة “لوموند” الفرنسية الشهيرة “ان التغيير الذي جرى في العراق لم يكن لأسباب داخلية فقط”. ينقل حنا بطاطو عن الرئيس عبد الرحمن عارف إشارته الى تورط “أيادٍ غير عراقية”. والمطلوب هنا إجراء مزيد من البحث للتأكد من تورط الولايات المتحدة أو السي آي أيه في إنقلاب ١٩٦٨، لا سيما من الأرشيفات الامريكية.
توترت علاقات الولايات المتحدة بالعراق بعد ١٩٦٨ وكانت الصدمة النفطية عام ١٩٧٣قد أدت إلى تحول جذري في السياسة الأميركية. كانت “الشقيقات السبع” الشهيرات تتكفل حتى ذلك الوقت بضمان بقاء إمدادات النفط العالمي بأيدي صديقة للغرب وبأسعار “مصممة” لأن تكون واطئة دائماً. إعتمدت الولايات المتحدة بعد عام ١٩٧٣ فرضية لا تنازع وهي: أن نفط الشرق الأوسط يجب ان يبقى بأيدي موالية للغرب وحاولت وعلى إمتداد عام ١٩٧٤ أن تقنع حلفاءها الأورپيين واليابانيين بتشكيل كارتل يكون جبهة موحدة يقف بوجه منظمة (اوپيك)، ويهدد بعقوبات إقتصادية أو غزو عسكري كي يكسب التنازلات.
الولايات المتحدة لم تتمكن من المضي بمفردها هذه المرة بسبب “عقدة ڤيتنام”، أي ان الرأي العام الأميركي لن يتحمل حرباً خارجية أخرى في بلد غريب لم يفهمه، لذا طور المخططون الأميركيون سياسة سموها سياسة “الركيزتين التوأمين”. تتمثل هذه السياسة في أن تبسط الولايات المتحدة هيمنتها عبر بدلاء، وهما حليفتا الولايات المتحدة القويتين السعودية وإيران وقد عملت أميركا على تسريع بناء جيشيهما بوتيرة عالية بأمل ان تستطيع ممارسة تنفيذ خطتها من خلالهما إلا أنه عندما قامت الثورة الإيرانية، الشديدة العداء لأميركا في عام ١٩٧٩، فقدت الولايات المتحدة إحدى هاتين الركيزتين وبادرت على الفور الى تشكيل “قوة الإنتشار السريع” التي كان الغرض منها ان تتمكن من إنزال قوات في الشرق الأوسط بسرعة في حال إقدام حكومات معادية للغرب على تهديد إمدادات النفط. بدأت أميركا وبشكل محموم بالإستحواذ على قواعد عسكرية في المحيط الهندي وشرق أفريقيا والخليج وتحولت قوة الإنتشار السريع إلى ما تسمى اليوم “القيادة المركزية”، بما أن الغرض من تشكيلها كان وضع قوات أميركية في منطقة تحوي على أكبر خزين نفطي في العالم، فلم تعد المسألة غير مسألة وقت كي تقيم هناك[6].
نتيجة للمشاكل المؤجلة والتي كانت تلوح في الأفق في إيران منذ عام ١٩٧٥، بدأت الولايات المتحدة في دعم العراق مرة أخرى في المجالات الأمنية والعسكرية وإتسع حجم المساعدة العسكرية وإمداده بمعدات إستراتيجية حتى نهاية الحرب التي إستمرت ثمان سنوات ١٩٨٠- ١٩٨٨. كانت الولايات المتحدة تدعم الجانبين مظهرةً بوضوح سياسة غير معلنة هدفها إطالة أمدها على أمل إلحاق أكبر قدر من الدمار بالجانبين لأن كلا النظامين يهددان هيمنتها في المنطقة. قدمت الولايات المتحدة دعماً أكبر للعراق وربما كانت إيران على وشك أن تربح الحرب لولا قيام الولايات المتحدة والقوى الغربية بنجدة العراق[7].
دخل العراق اليائس المفلس بعد الحرب في صراع مع الكويت والتي كانت تاريخياً جزءاً مما أصبح يعرف لاحقاً بالعراق الى أن إقتطعها البريطانيون في تسعينيات القرن التاسع عشر وذلك لغرض إضعاف الإمبراطورية العثمانية وكسب قاعدة غنية بالنفط على طريق الهند[8]. قامت الكويت بأعمال الحفر الأفقي في الجزء العراقي من حقل الرميلة النفطي أثناء الحرب بين إيران والعراق متسببة في فيض الإنتاج ودفع الأسعار إلى الهبوط وحرمت العراق من منفذ بحري على الخليج[9]. إتخذ السفراء الكويتيون بعد الحرب موقفاً متعنتاً في المفاوضات مع العراق في الجامعة العربية وفي هذه الأثناء كانت القيادة المركزية تقوم بعمليات عسكرية تحاكي غزو الكويت غزوا برمائياً. قام صدام حسين بغزو الكويت نتيجة عجز التفاوض لحل أزمة العراق بعد الحرب. لقد أتاح غزو العراق للكويت عام ١٩٩٠ فرصة للولايات المتحدة كي تحقق طموحها منذ عام ١٩٧٣: قوات في الشرق الأوسط. أصبح للولايات المتحدة قوات هامة هناك منذ عملية عاصفة الصحراء عام ١٩٩١.
لقد إكتملت دائرة القصة بإحتلال العراق عام ٢٠٠٣ وإلقاء القبض على صدام.
جاء حزب صدام حسين إلى السلطة بمساعدة الولايات المتحدة وبقوتها هي قد أفقدته إياها بعد ثلاثين عاماً وشهرين[10]. كانت عملية إسقاط صدام عام ٢٠٠٣ مرآة لما حدث عند إسقاط قاسم بمساعدة أميركية في عام ١٩٦٣، فمنذ اللحظة الذي فقد فيه البريطانيون سيطرتهم على العراق، كان هَم صانعي السياسة الأميركيين دوماً بسط النفوذ والسيطرة على بلاد ما بين النهرين.
كانت محاولة الولايات المتحدة إضعاف عبد الكريم قاسم في عام ١٩٦٠ حقيقة تاريخية قاسية حيث ساعدت، في أقل تقدير، بتمويل الإطاحة به على يد البعث في عام ١٩٦٣. يبدو من المرجح أنها قد تدخلت في أوقات أخرى خلال الخمس سنوات من عهد قاسم وقدمت أكثر من المساعدة المالية للإنقلابيين كتزويدهم بمعلومات إستخباراتية من الكويت واعطاء تأكيدات بدعمهم بعد الإنقلاب ولعلها قد إستمرت بتقديم هذا الدعم بعد الإنقلاب من خلال تقديم قائمة بأسماء الشيوعيين المطلوب تصفيتهم وإقامة جسر جوي ولكن ما زال يتعين التحقق من ذلك بوثائق رسمية.
الدرس المهم الذي يجب تعلمه من دراسة السنوات الأولى في تعامل أميركا مع العراق بأن سياستها في ذلك الوقت وهي (معاداة الشيوعية) قد ساقتها لدعم القادة الخطأ. لعل قاسم ومَنْ جاء بعده كانوا أفضل للعراق وللمنطقة ولمصالح الولايات المتحدة من حزب البعث. الآن ومع ما تتحدث عنه التقارير عن فرق الموت الشيعية وغرف التعذيب حيث تختمر حرب أهلية كامنة في العراق، يبدو وكأن سياسة مكافحة الإرهاب تدفع الولايات المتحدة لدعم زعماء سيئين مرة أخرى. كما كان عليه الحال تحت حكم البعث فبعد غزو ٢٠٠٣ فقد شكل العراق مشكلة كبيرة لأميركا، لذا فأن هذه الدراسة تؤيد إنتهاج سياسة مستقبلية للولايات المتحدة تقوم على عدم التدخل في العراق[11].

[1] في الحقيقة فأن صدام لم يكن بعد قد ترقى إلى مركز القيادة وهو كان واحداً من أفراد الحرس القومي في مقر قطاع الصالحية مقابل دار الإذاعة العراقية فوفق رواية شخصية لأحد الأقرباء والذي كان معه في نفس المقر فأن صدام كان فعلاً يميل إلى الجناح العسكري اليميني في الحزب ففي أحداث يوم ١٣ تشرين ثاني ١٩٦٣ قام رفاقه من أعضاء الحرس القومي قد بشتمه وضربه وطرده من المقر نتيجة موقفه هذا الذي إعتبروه موقفاً خيانياً. [المعرب]
[2] لم يكن عارف جزءاً من صراعات حزب البعث ولم يتزعم أياً من الأجنحة رغم إنتهازيته وإستفادته منهم للوصول إلى مآربه السلطوية وإستمرائه لعبة الإنقلابات وقد إستغل إنشقاقاتهم وجرائمهم للإنقضاض عليهم وإزاحتهم عن السلطة بعد أن إستمال جزءاً منهم كالبكر وحردان وعماش وهؤلاء كلهم كانوا عسكريون، إلا أنه في أثناء حكمه حاول تجميع بعض القوميين من المدنيين حوله والذين لا علاقة لهم بالبعث. [المعرب]
[3] هو ربما يقصد هنا مقتل عبد السلام عارف (عارف الأول) في حادث الطائرة السمتية في نيسان ١٩٦٦ قرب البصرة وأن عارف الثاني لم يتوفى في عام ١٩٦٧، بل أزيح عن الحكم في إنقلاب البعث في ١٧ تموز عام ١٩٦٨ وتوفي عام ٢٠٠٧ في عمان. [المعرب]
[4] تبدو هذه المعلومة غير دقيقة فلم تجري تصفيات للشيوعيين من قبل البعث بعد خسارته للسلطة بعد ١٨ ت٢/ ١٩٦٣بل على العكس فأنه حاول التصالح مع الشيوعيين والقوميين اليساريين من أجل إنهاء النظام العارفي بإعتباره نظاماً رجعياً. إستمر النظام العارفي بإضطهاد اليسار وبقي الكثيرون منه يعانون في السجون وحكم على النخبة العراقية من أساتذة جامعات وأطباء وعسكريين مهنيين بأحكام جائرة من قبل محاكم عسكرية وعرفية. [المعرب]
[5] هناك موضوعان مهمان لابد من ذكرهما بخصوص إنقلاب تموز ١٩٦٨. الأول أن من نفذ الإنقلاب وأزاح عارف هم ضباط معروفين بإرتباطاتهم بالمخابرات الأجنبية يقف على رأسهم عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداوود وأن إدعاء حزب البعث أن بمقدوره قلب نظام الحكم هو محظ إفتراء لأن الضباط الذين تمت تصفيتهم بعد ذلك هم من كانوا يملكون القوة والسلاح ومن داخل الحرس الرئاسي والبعثيون دخلوا القصر بسيارة پك أپ بعد أن إستتب الأمر وإستسلم عارف للأمر الواقع ثم بعد ذلك إستمالوا ضباطاً على أسس قبلية وولاءات مناطقية. أما إرتباط ذلك بتغيير قيادات وحكومات المنطقة بعد حرب ١٩٦٧ فلربما الحديث يطول عنه لأنه موضوع يتعلق بالستراتيجيات الإمپريالية في المنطقة والنفوذ والسيطرة على أكبر خزين نفطي في العالم. يلاحظ أن خارطة المنطقة قد تغيرت بعد تلك الحرب ودخلت في حقبة جديدة مهدت للإعتراف بإسرائيل وبروز دول لم يكن لها وجود أقصت الدول المحورية ذات الثقل السكاني والحضاري العريق. لحق ذلك حروب بينية أبعدت الخطر عن إسرائيل نسبياً ولم تنقطع على مدى نصف قرن حتى دمرت دول وتبعثرت مجتمعات وبرزت حركات دينية راديكالية هدفها قتل ومحاربة شعوبها تحت شعارات التكفير والتخوين. لقد تغيرت الأنظمة في العراق وسوريا وليبيا والجزائر والسودان وتوفي عبد الناصر بصورة مفاجئة رغم تصالحه مع أنظمة رجعية في آخر أيامه وقبلها كانت خسارته للحرب في اليمن أمام السعودية ومن ورائها الإمپرياليات الغربية. [المعرب)
[6] إن هذه هي إحدى الإستراتيجيات المطبقة وهي “دعهم يحاربون بعضهم البعض” حيث تم إستبدال إيران بدول صغيرة ولكنها ذات إمكانيات مالية كبيرة قادرة على أن تشتري السلاح وتطمح في بسط نفوذها في المنطقة حيث أخذها الغرور للدخول في حروب عبثية وإرتكاب جرائم بحق شعوب المنطقة. حرب اليمن مثال صارخ على ذلك فما زال حلفاء الولايات المتحدة منذ عام ٢٠١٥ في حرب ممتدة تحت ذريعة منع التمدد الإيراني ولم يتمكنوا من حسمها رغم فقر القوة المقابلة مقارنة مع القوى المهاجمة وكذا بالنسبة لليبيا وسوريا. [المعرب]
[7] لقد مدت دول الخليج ودول عربية أخرى العراق (مصر والأردن) بالعون والأموال الطائلة بلغت مئات المليارات من الدولارات لأغراض نفعية، إلا أن هذا الدعم قد إستخدمته تلك الدول كأداة ضغط بعد إنتهاء الحرب، وخاصة الكويت، والمطالبة بإعتباره ديوناً مستحقة مما مهد للغزو. لا يوجد تفسير منطقي لهذا الحجم من الدعم غير أنه كان مشاركة فعلية في الحرب وذلك بموجب إستراتيجيات مرسومة تشرف على تنفيذها الولايات المتحدة لمصلحتها ولأجل أبعاد الخطر عن إسرائيل. [المعرب]
[8] لم يكن النفط قد إكتشف بعد في المنطقة في القرن التاسع عشر ولكن موقع الكويت الإستراتيجي بالنسبة لبريطانيا حيث يقع في الطريق إلى الهند وكذلك إلى البحر المتوسط عن طريق العراق هذا بالإضافة للتخطيط البريطاني بجعل الخليج بحيرة هندية عاصمتها البصرة وهذا ربما ما نجحت به إلى حد كبير بعد مرور أكثر من مئة عام على ذلك المخطط. [المعرب]
[9] لم يكن فيض الإنتاج نتيجة للسياسة الكويتية في سبيل تخفيض الأسعار إلى مستويات دنيا فقط، فقد ساهمت دول الخليج في ذلك وخاصة الإمارات مما حدا برئيسها الشيخ زايد حين شعر بالخطر بأن يصدر أوامره من أحد منتجعاته في أورپا بتخفيض الإنتاج فوراً بعد أن توترت العلاقات وإدلهمت الخطوب وسادت شائعات بأن العراق سينتقم مستعملاً القوة من الذين يتسببون في أذاه وربما كان الغزو هو الصدى المسموع في الشارع العربي والإعلام الغربي بشكل واضح.
[10] ربما أخطأ الكاتب في حساب السنين فلربما كان يقصد أربعون عاماً وشهرين وهي المدة بالضبط من ٨ شباط ١٩٦٣ ولغاية ٩ نيسان ٢٠٠٣. [المعرب]
[11] كان لممارسات الغزاة الوحشية ضد الشعب العراقي أكبر الأثر في تقسيم المجتمع وتدمير أسسه العلمانية ونسيجه الإجتماعي وتأسيس نظام طائفي فرسانه اللصوص والعملاء والطبقات القديمة وُضعت أسسه في واشنطن وطبقه بريمر خلال السنة الأولى للغزو. كما يجب ألا ننسى ما فعله الغزاة الأميركيون في سجن أبو غريب وفضيحتهم المدوية في تعذيب المواطنين العراقيين بطرق وحشية يندى لها جبين الإنسانية هذا غير القتل المجاني للمواطنين الأبرياء من قبل الشركات الأمنية ووحشية الجنود في تعاملهم مع المواطنين. [المعرب]

الملحق ١

الرئيس كينيدي يقلد دلاس ميدالية الأمن الوطني في ٢٨ تشرين ٢-١٩٦١
Kennedy presents the National Security Medal to Dulles, November 28, 1961.

التدخل الأميركي الخفي

تعرقل هذا المشروع بشكل كبير وذلك نتيجة لحقيقة أن حكومة الولايات المتحدة قد نفت وما زالت تنفي تورطها في إنقلاب١٩٦٣. ينفي الضابط السابق في السي آي أيه ايد كين بشدة أية صلة للسي آي أيه في الإنقلاب، في رسالة موجهة الى مدير العلاقات العامة الحالي في الوكالة، صرح بـ “أن إنقلاب شباط ١٩٦٣ كان مفاجأة تامة للوكالة وأني على يقين بأنه قد فاجأ حكومة الولايات المتحدة بأكملها”. عرضت لكين بالفاكس في عام ٢٠٠٥ الوثيقة المعنونة “من كومر الى كينيدي” وعندما سألته “مَنْ هم “هؤلاء” الذين يشير إليهم كومر، فأجاب:
ليست لدي أية فكرة على الإطلاق. لم أر أي تقارير ومن أي مصدر، بما في ذلك ما تم إعتراضه لاسلكياً ومن خلال المراسلات عندما كنتُ مسؤولاً عن مكتب العراق ولا حتى أي تلميح حول الإعداد للإنقلاب، كذلك لم ير أي من موظفي الخارجية ذلك. عندما إتصلتُ هاتفياً برؤسائي في الوكالة من المقر الرئيسي حوالي منتصف ليلة الثامن من شباط، فقد أعرب الجميع عن دهشتهم لوقوع إنقلاب”.
إتصلتُ به هاتفيا وطلبُت منه إيضاحاً عما كان يتحدث عنه كومر؟ أجاب كين: “أعتقد أن كلامه فارغ“. كان كين يريد أن نصدقه وأنه يقول الحقيقة ولكن بوب كومر هو الذي كان يكذب على رئيس الولايات المتحدة في مذكرة سرية للغاية. إن كين يعمل بنشاط على ترويج ما تطلق عليه السي آي أيه بـ “الدعاية البيضاء”، الأكاذيب التي ترمى إلى الجمهور كي يبدو شكلها جيداً وهذا الشيخ الثمانيني ما زال يمارس التقنيات المخابراتية.
لستُ الوحيد الذي واجه مشاكل في مقابلة عملاء السي آي أيه القدماء والذين ما زالوا يعملون لمصلحة “الشركة”، فأن كرتچفيلد نفى تورط الوكالة في الإنقلاب في مقابلته مع أبو ريش عام ١٩٩٤ إلا أن ريتشارد سيل كتب في عام ٢٠٠٣، أن “مسؤولا كبيرا جدا في السي آي أيه” نفى مؤخرا بشدة أنهم كانوا شركاءً في إنقلاب ١٩٦٣وقال: “لقد ذُهلنا تماماً وكان هناك أشخاص عندنا يهرولون هنا وهناك سائلين ما هذا الذي حدث بحق الجحيم؟”.
إن هذه التناقضات والتعتيمات يمكن تفسيرها بمدى تجذر وعمق الثقافة السرية الصارمة في السي آي أيه. يوضح ذلك الباحث في شؤون الوكالة توماس پاورز، آرمين مير مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية في عام ١٩٥٩ وبحكم وظيفته كان يستدعى كلما فكرت السي آي أيه بالقيام بعمليات خفية في العراق. كان مير حاضراً أحد تلك الإجتماعات لبحث السبل التي يمكن ان تُعتمد في سبيل إزاحة قاسم:
أثناء الإجتماع إقترح أحد الحاضرين إن قاسم هو المشكلة، ولعل أفضل طريقة للتخلص منه هي التخلص منه“. فقال دلاس [مدير السي آي أيه]: إنتظر دقيقة! أعقب ذلك صمت رهيب. كان دلاس رجلاً ذو صلاحيات شخصية واسعة وكان لوقع كلماته في هذه المناسبة توكيد قاس ومقصود لم ينسها مير قط. أراد دلاس أن يعبر عن شيء واحد كي يفهم وهو أن ليس من شيم الولايات المتحدة إغتيال الخصوم، وأن القتل لن يُناقش في مكتبه ابداً، لا الآن ولا في اي وقت آخر، فهو لا يريد ان يسمع أبداً مقترحاً آخراً كهذا من موظف في حكومة الولايات المتحدة، هذا الأسلوب هو ليس أسلوب الأميركيين في العمل.
كان دلاس واضحاً جداً في هذه النقطة، وتحدث برغبة وقناعة واضحتين، حتى أن مير ببساطة لم يفهم كيف أن دلاس لم يكن يوماً ما بإستطاعته أن يكون طرفاً في مؤامرة إغتيال بغض النظر عمَنْ يصدر الأوامر لتنفيذها. كان مير يعرف ماذا كان في تقارير لجنة چيرچ لكنه ببساطة لم يصدقها وإن هناك خطأ ما حدث كان فوق طاقة تصور مير بأنه قد إرتكب خطأ في هذا الشأن، لم يترك دلاس أي فسحة للشك: أنه لن يكون طرفاً في عملية إغتيال”.
وكما كان تقرير لجنة چيرچ واضحاً بالتفصيل عن الإغتيال المزعوم فأن ألن دلاس والسي آي أيه كانا متورطين في مؤامرات الإغتيال عام ١٩٥٩، وبالتحديد ضد العراق! كانت تلك المسرحية (كلمات دلاس لمير) محاولة متعمدة للتضليل والخداع بدافع واضح وهو الحفاظ على السرية. يفسر ذلك حالة الإرتباك والجهل حتى بين أرفع المسؤولين في الوكالة وطريقة “التظاهر بالنفي” يمكن أن نجدها بين مسؤولين كباراً لأجل الإقناع بالنفي على ما يجري من عمليات خفية قد وقعت فعلاً.
إن عملاء متقاعدين في السي آي أيه، مثل كين، فإما أنهم كذّابون أو أنهم قد خدعوا كما خُدع آرمين مير. يصر كين على أنه من غير الممكن ألا يعلم بعمليات السي آي أيه مع البعث لأنه كان مسؤول مكتب العراق في واشنطن وقت الإنقلاب وكل شيء كان يأتي من بغداد يجب أن يمر عن طريقه، إلا أن هناك في تاريخ السي آي أيه حالات من تجاوز التسلسل الطبيعي للأوامر وتدفق المعلومات. كان جورج أوريل George Aurell قد أبلغ جوزيف بركهولدر سميث Joseph Burkholder Smith بأنهم كانوا يتجاوزونه أثناء توليه رئاسة قسم منطقة الهادئ:
أتعلم ماذا اكتشفتُ، ماذا كان [العقيد لاندسديل سيء الصيت وشركاؤه] يفعلون معي حينما كنتُ رئيس قسم؟ كانوا يبرقون بشفراتهم السرية ويحصلون على موافقات على أمور وإنفاق أموال ما كنتُ لأُوافق عليها قط لو كنت قد عرفتُ بها.
لقد إعتادوا أن يرسلوا لي برقيات إدارية بدلا من برقيات عملياتية عندما يبغون الموافقة على نفقات عملياتية جديدة، يطلبون المال لأغراض التمويل السياسي وخطط الدعاية… بالطبع فهم يحصلون على الموافقة دون مراجعتي أو مراجعة أي موظف لها… لم أعلم بهذه الحيلة اللعينة إلا حين جئت هنا واطلعتُ على بعض الأمور في السجلات”.
يبدو أنه من المستبعد أنه قد جرى تجاوز كين وبأنه لم يكن قادراً على إيجاد على أي شخص يُدِله طوال هذه السنين مع توفر أدلة واسعة على وجود مثل هذه المعلومات الإستخبارية “الممتازة” عن إنقلاب١٩٦٣. إن خبرة أوريل قد تفسر الكثير من النفي الذي يصطدم به الباحثون فأن للسي آي أيه عادة الكذب والخداع حتى بين بعضها البعض! فعندما توجه جوزيف سميث الى مبنى الوكالة في واشنطن لإجراء مقابلته الاولى (ليوم كامل) لإمكانية إستخدامه، فإنهم قد نقلوا سيارته الى الجانب الآخر من نصب لنكلن، بعيدا عن مرأى مخرج المبنى وأوقفوها فوق الممشى. سميث وبحسه السليم فقد دار حول النصب ليصل إلى سيارته الجيپستر متوقفة على الممشى وبعد أن إبتعد تساءل إن كان ذلك من صنع “عالم نفسي من مخلفات مكتب الخدمات الاستراتيجية (أو أس أس) والذي ما زال يعمل إلى الآن في الـ “سي آي أيه” ويمارس خدعه القديمة لإختبار العملاء المحتملين”!
سيكون من المدهش حقاً التمكن من بالنسبة للباحثين إكتشاف أي شيء في خضم هذا النوع من الثقافة التي يتعين عليهم التعامل معها وأن ما يزيد المهمة تعقيداً أن وثائق الحكومة تحظر تلقائياً أي ذكر للسي آي أيه أو للعمليات الخفية والتدخلات العسكرية وغيرها من المواد الحساسة. إن ملف “العلاقات الخارجية للولايات المتحدة” بشأن العراق خلال الفترة الممتدة من ١٩٥٨الى ١٩٦٣ يتضمن أكثر من مئة مقطع ما زالت مصنفة سرياً وأحيانا وثائقاً بكاملها وإن هذه الوثائق دائما ما تُعتم في اللحظة التي يراد مناقشتها. يستطيع الباحث ان يقدم طلباته إستنادا الى قانون حرية المعلومات، ولكن ذلك ربما يأخذ شهوراً كي يأتي الرد، وغالباً ما تعود الوثائق دون تغيير، أو بتغييرات تبقي على سرية المواد المتعلقة بالسي آي أيه أو العمليات الخفية.
السي آي أيه، وبينما هي ذهبت إلى أقصى المديات كي تتستر على مشاركتها في الإنقلاب الذي تحقق عام ١٩٦٣، ولغاية يومنا هذا، كذلك فأن العراقيين عمدوا إلى “تطهير سجلاتهم”، فليس من مصلحة الحكومة العراقية وعلى مدى ثلاثين عاما أن تُعرف هذه التفاصيل. ” رحل عن هذه الدنيا في غضون ذلك ثلاثة من أقرب اصدقاء صدام في القاهرة – عبد الكريم الشيخلي (أغتيل عام ١٩٨٢) ومدحت ابراهيم جمعة (غُدر عام ١٩٨٦) ونعيم الأعظمي (قتل اوائل الثمانينات). الشخص الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة فهو فاروق النعيمي الذي يعيش في بغداد”. يستطيع النعيمي ربما ان يسلط قدراً من الضوء إذا أمكن العثور عليه، لأن صدام قتل الكثير من الأشخاص، بمن فيهم غالبية من الذين تهادنوا معه، وبالتالي فإنه من المستبعد ان نتلقى مساعدة كبيرة من الجانب العراقي.

الملحق رقم ٢

ليكلاند؛ لماذا لم يكن من عناصر السي آي أيه ولماذا ترى غالبية العالم العربي كان هو كذلك؟

سعيد أبو ريش، وهو من أغزر الكتّاب في موضوع تدخل الولايات المتحدة في العراق، كتب بأن ويليام ليكلاند هو من قاد الإنقلاب. لماذا أخطأ أبو ريش؟ وهو الشخص الواسع الإطلاع والكثير البحث، فهذا يتطلب شيئا من التوضيح فلقد تحولت قوته في هذه الحالة إلى ضعف. إن لدى أبو ريش سيرة متميزة في العمل في الشرق الأوسط والتعامل مع شخصيات بارزة. تتمثل قوته في انه يعرف الكثير من العرب فهو يتحكم في مقابلة أي شخص، فمن رجل الشارع حتى أطفال عبد الناصر الى قيادات حكومة حالية أو سابقة ومن كل نوع. إذن فأن هذه هي المشكلة، فأن معظم العرب الذين ألِفوا تورط السي آي أيه في إنقلاب١٩٦٣ قد إعتقدوا أن ليكلاند كان هو قائد الإنقلاب. إن ليكلاند لم يكن عنصراً في السي آي أيه بل موظفاً دبلوماسياً مهنياً وأن ملفه الحكومي يشير إلى ذلك. إن مركز الموظف في السلك الدبلوماسي لم يستخدم ذات يوم كغطاء لعملاء السي آي أيه لأن وزارة الخارجية ما كانت لتسمح بذلك. عندما كان يُطلب من الوزارة توفير غطاءٍ لعملاء الوكالة كانت تضع عنوان “خدمة إحتياط خارجية FSR” أو “موظف خدمة خارجية FSS “. إبان الخمسينيات ألغت وزارة الخارجية تدريجياً عنوان “خدمة إحتياط خارجية” عند تعيين موظفيها حيث إقتصر العنوان على عناصر السي آي أيه فقط. كانت تلك مشكلة بالنسبة للوكالة “ففي كل بلد أجنبي هناك وظيفة تعادل تلك الوظيفة في السفارة، يتعامل موظفوها مع مسؤولين محليين كبار ويتحركون في دوائر مهمة من المجتمع المحلي دون ان تكون لديهم عناوين رسمية يمكن ان تبرر نشاطهم”.
إن ليكلاند، شأنه في ذلك شأن العديد من موظفي الخدمة الخارجية التقليديين، كان يشكو من إقدام السي آي أيه على إستخدام المناصب الدبلوماسية كغطاء لها كما كان يكره أن يتظاهر بأن “آرت كالاهان وجماعته كانوا موظفين عندي”. إن ليكلاند، بالإضافة الى ذلك، شأنه شأن دبلوماسيين آخرين، لم يتفق مع العديد من سياسات السي آي أيه. إستشاط ليكلاند غضباً لأن أبو ريش كتب عنه الكثير من المعلومات، كانت وبكل بساطة غير الصحيحة ولكنه بقي إنساناً طيباً. كان موقفه بأنه يعرف الحقيقة أما الباقي في الواقع فلا يهمه كثيرا وإذا أمكن تصحيح السجل، فسوف يكون مستعداً لذلك، كان منفتحا للغاية وقد قدم المساعدة لهذا المشروع. يتعارض ذلك تعارضاً صارخاً مع الصورة التي رسمها عنه أبو ريش في كتاباته. بدا أبو ريش غير مشجع لي لمقابلة ليكلاند، كاتباً لي “إن كان ليكلاند حياً، سيمتنع عن اجراء مقابلات”. فكرتُ بأن هذا غريب لأن أبا ريش قد أدرج مقابلة أجراها معه عام ٢٠٠١ في كتابه عن عبد الناصر وقد نقل عنه. بعد مقابلاتي مع ليكلاند ومع مسؤولين أميركيين آخرين سابقين وبمراجعة السجلات، أطلعتُ أبي ريش على ما توصلتُ اليه، وفيما يخص ليكلاند تحديداً، إعترف أبو ريش بأن ليكلاند “كان على الأرجح من موظفي وزارة الخارجية”، لكنه ظل يعتقد انه كان “خبير إنقلابات”. إعترف أبو ريش بأنه شخصيا “لم يكشف” شيئا عن ليكلاند، ولكن من باب البرهنة ذكَّرني بأن عبد الناصر أورد اسمه بوصفه أحد عملاء السي آي أيه خلال إجتماعات الوحدة بين مصر والعراق وسوريا في عام ١٩٦٣[1]. يذهب أبو ريش الى أن عبد الناصر في هذه الإجتماعات قد حذر العراقيين من ليكلاند وتسبب في طرده من العراق. إنه على علم بذلك، لأنه قال بأن المصريين سجلوا سراً محاضر هذا الإجتماع ثم أذاعوها لاحقا. لم أستطع التحقق من ذلك في الملفات الاذاعية، ولا يعتقد ليكلاند ان ذلك قد حدث ذات يوم. غادر ليكلاند فعلا العراق للإلتحاق بوظيفة في واشنطن عام ١٩٦٤ ولكنه ينفي ان يكون قد طُرد. يشير ليكلاند الى انه وزوجته إلتقيا عبد الناصر بصورة غير رسمية في القاهرة في طريق عودتهما الى بلادهما عام ١٩٦٤. لعل الرجلين يخبران الحقيقة التي يعرفانها، وفي ضوء الأدلة المتاحة فان عبد الناصر كان محقاً تماماً في الظن بأن ليكلاند كان عميل في السي آي أيه[2].
المؤكد ان عبد الناصر كان يعتقد ان ليكلاند يعمل في السي آي أيه عام ١٩٦٤فقد كتب مستشاره القريب ومحل ثقته محمد حسنين هيكل عن “الوجود الدبلوماسي الأميركي في القاهرة” اوائل الخمسينيات. قال هيكل ان “ويليام ليكلاند، وهو دبلوماسي شاب ذكي، كان موجودا هنا وربما كان يعمل بالفعل لصالح السي آي أيه، كما عمل بالتأكيد لاحقا، رغم ان ذلك لم يكن موضع شبهة وقتذاك”. كان هيكل الذي تولى لفترة طويلة رئاسة تحرير صحيفة “الاهرام”، أكبر الصحف المصرية هيبة، هو أحد القلائل الذين يشكلون البطانة الداخلية لعبد الناصر ولقد تعرَّف ليكلاند على عبد الناصر من طريقه. وإذا ما توصل هيكل في نهاية المطاف الى الإعتقاد بأن ليكلاند عميل في السي آي أيه، فمن المؤكد ان عبد الناصر قد أعتقد ذلك أيضاً، ولكن ليس منذ البداية.
كان ليكلاند في عام ١٩٥٢ السكرتير الثاني في الدائرة السياسية للسفارة الأميركية في القاهرة وفي إطار واجباته الوظيفية المعتادة فقد صار مطلعاً على ما كان يمرره له هيكل من معلومات سرية عن مراقبة عبد الناصر والضباط الأحرار وكان ليكلاند ينقل هذه المعلومات الى رؤسائه حتى أن هيكل قد مرر إلى ليكلاند تنبيهاً مبكراً في ليلة الإنقلاب. وقعت المسؤولية الرئيسية للإتصال بعبد الناصر بعد مجيئه الى الحكم على ليكلاند لأنه هو المُسْتَعِرِب الوحيد المؤهل في القاهرة، في الوقت الذي كان فيه السفير جيفرسون كيفري يقترب من نهاية حياة مهنية مديدة أمضاها في السلك الدبلوماسي، ويقضي جزءاً من موسم الصيف في الإسكندرية. الفترة المبكرة بعد الإنقلاب كان اللواء محمد نجيب رئيس الوزراء الشكلي[3]، فيما كان موقع عبد الناصر يترسخ ببطأ بوصفه صاحب السلطة الفعلي، وبالتالي كان من المنطقي ان يتعامل كافري مع نجيب ويتعامل ليكلاند مع عبد الناصر.
حين أصبح واضحا بمرور الوقت أن عبد الناصر هو صاحب السلطة الحقيقية في مصر، إكتسبت مهمة ليكلاند أهمية أكبر. كان بيل وزوجته ماري جو غالباً ما يستضيفانه في بيتهما، وكانت ماري جو المرأة الغربية الوحيدة التي تخاطب جمال عبد الناصر بإسمه الأول. عندما توترت علاقة الولايات المتحدة مع ج.ع.م [4] واكتسبت أحداث مصر أهمية دولية، عمدت السي آي أيه إلى إزاحة وزارة الخارجية تدريجياً عن موقع التفاوض المباشر مع عبد الناصر. أصبح عبد الناصر على معرفة بآرچيبولد روزفلت وجيم ايكلبرغر ومايلز كوپلاند الذين يعملون في الوكالة. نُقل ليكلاند الى وظيفة في عدن عام ١٩٥٥ ثم الى العراق عام ١٩٦٠ كسكرتير أول مترأساً الدائرة السياسية. كان من الطبيعي بالنسبة للجمهور الإعتقاد بأن ليكلاند هو مسؤول السي آي أيه في العراق بالنظر إلى ما كان يُحاك من دسائس ضد قاسم، لأن الكثيرين يفهمون بأن الوكالة تعمل ضمن الدائرة السياسية في السفارة. لقد أخبرني ليكلاند: “إني متأكد من ان الإشاعات السارية عموما في بغداد كانت تشي بأني في السي آي أيه”.
بات من الصعب على عبد الناصر ان يصدق بعد التعامل الواسع مع السي آي أيه على إمتداد سنوات بان الأميركيين سمحوا لموظف صغير في وزارة الخارجية أن يكون حلقة الإتصال به لزمن طويل جداً دون ان يكون مرتبطا بمؤسسة المخابرات. حين تولى ليكلاند رئاسة الدائرة السياسية في السفارة الأميركية في بغداد أثناء الإنقلاب المدعوم من السي آي أيه، بدا أن إرتباطاته بالوكالة لم تعد موضع شك. كان عائلة ليكلاند منتبهة بأن الكثير من العراقيين يظنون ان بيل هو عميل في السي آي أيه وفي احدى المناسبات فقد استُبعدت ماري جو من قائمة المدعوين لحضور حفل إستقبال لأن “زوجها في السي آي أيه”.
يؤكد أبو ريش ان غالبية العراقيين يستخدمون “دليلاً ظرفياً للقاءات المستمرة بين عماش وليكلاند” كي يبرهنوا أن عماش “قد جندته السي آي أيه” ولعل هذا الدليل الظرفي هو ان عماش كان يُشاهد مراراً مع موظفين في السفارة. الإفتراض يقود مرة أخرى الى ان ليكلاند هو المسؤول المكلف عن كل ما كان يدور بين المتآمرين من البعثيين وعناصر السي آي أيه. المؤكد أن عماش كان يعرف الكثيرين من الأميركيين، لكن ليكلاند يقول انه لم يسمع بعماش ذات يوم ولعل آرت كالاهان وغيره من عملاء السي آي أيه كانوا يعرفونه جيداً.
كان مصدر أبو ريش الرئيسي بشأن ليكلاند هو الوزير السابق في حكومة البعث هاني الفكيكي[5]. لم يكن لدى الفكيكي نفسه إتصالاً مباشراً مع السي آي أيه، لكنه كان على ما يبدو لديه الكثير عن تفاصيل التعاون مع السي آي أيه من رفاقه البعثيين وقد سلم لأبي ريش أسماء بعضهم والذين عملوا مع الوكالة. إن أسماء وهويات عناصر السي آي أيه الذين عملوا مع البعثيين كانت غامضة بالنسبة للفكيكي وقد يكون هذا هو السبب في أن الإسم الذي اعطاه الى ابي ريش هو الوحيد الذي كان يعرفه، وهو أشهر الأسماء، رئيس الدائرة السياسية؛ وليام ليكلاند.

[1] يذكر الكاتب بأن محادثات الوحدة الثلاثية كانت قد جرت عام ١٩٦٤ فتم الصحيح. [المعرب]
[2] ربما أن أبا ريش كان يشير إلى بروس أوديل الذي كان نقطة الإتصال مع الصحفي مصطفى أمين المتهم بالجاسوسية وهذا ما ذكره هيكل في برنامج تلفزيوني على الجزيرة بأن عبد الناصر حذر العراقيين من بروس أوديل وبأنه يعرفه- ورد ذلك في كتاب إرث من الرماد لتيم واينر – [المعرب]
[3] اللواء محمد نجيب كان رئيساً للجمهورية المصرية لغاية عام ١٩٥٤ حينما تم إبعاده ووضعه في الإقامة الجبرية وظل كذلك حتى بعد وفاة عبد الناصر. لم يكن صحيحاً القول بأن عبد الناصر كان هو أول رئيس جمهورية لمصر. [المعرب)
[4] لم تقم ج.ع.م بعد في ذلك الوقت فكان يكتفى بالإشارة إلى “مصر” فقط. [المعرب)
[5] هاني الفكيكي لم يستوزر بعد إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ بل كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث عند قيام الإنقلاب. [المعرب)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!